من الهزل التحدث بجديّة عن قيمة دينية مطلقة في صراع دنيوي نسبي، أو عن ثأر خالد لشخص عابرٍ سبقه خصمه بطعنة قبل ألف وأربعمئة عام.!
لا أحد يدري بالضبط ما الذي حدث حينها. لا شيء مؤكد تماماً في ما يحدث اليوم أمام مختلف وسائل الإعلام، أو ما حدث على مستوى العالم خلال الحرب العالمية الأولى.!
فقط الخطوط العامة وبعض التفاصيل هي كل ما يتبقى من الحرائق الكبيرة التي تخبو بالتدريج، ويتحول رمادها بالتقادم:
- إما إلى تاريخ. كالحرب بين اليونان والفرس. على طريقة هيرودتس.
- أو إلى أساطير. كالحرب بين اليونان وطروادة. على طريقة هوميروس.
معركة صفّين، موقعة الجمل، كربلاء.. على افتراض أن هذه الفظاعات حدثت فعلاً في الماضي. فإن الروايات والأخبار المتعلقة بها:
- كانت مختلفة حينها عن الواقع. كاي مادة إعلامية لا يمكن أن تخلو من قدرٍ ما من التحيزات.
- باتت مختلفة تماماً اليوم. بحكم قابليتها العالية للتمدد والتعديل والإضافة والحذف.. حسب سنن الثقافة الشفاهية.
في مكانٍ آخر من العالم.. كان يمكن لعوامل التعرية سحق تلك التلال من الجروح والأورام الأثرية المكدسة وتسويتها بالأرض.. لكن الزمن يفقد منطقه في منطقة ما زالت عالقة في القرن الأول للهجرة.!
باستثناء تزويد الصراع بأحدث أسلحة الفتك والدمار الشامل.. ما تزال دماء الخليفة "عثمان" طرية، والمختار الثقفي يطالب بثأر الحسين، والخوارج يثخنون الأرض بالإرهاب.!
أياً كان الأمر. كان يمكن تخليد تلك القصص بأكثر من طريقة آمنة. بدايةً بإدراجها بين دفتي التاريخ. بمعنى التوقف عن استدعائها إلى الحاضر لتأجيج النزاعات السياسية الخالصة.
أيضاً. كان يمكن تخليدها بطريقة الإلياذة، واستهلالها -بدلاً من الجميلة هيلين- بالخليفة عثمان، والتعامل مع الصراع بين علي ومعاوية كمعادل شرقي للصراع بين آخيل وهكتور.!
ستتسع الملحمة لبقية الصحابة وأدوارهم وصراعاتهم الجانبية. كعائشة وفاطمة وطلحة والزبير، وعمرو بن العاص وعمار بن ياسر.. في مقابل كاساندرا وبرسيس وأوديسوس وأجاممنون وفريام وباترولكس وباريس..
كانت الأسطورة ستتسع لأيّ شيء، والأهم أنها كانت ستنام في الأدراج وعلى رفوف المكتبات، ولن يتسلل أبطالها من بين السطور ويقومون بذبح الناس في الأزقة والطرقات.
المهم. أن لا يتم تأبيد تلك القضايا والمذابح والأحقاد.. بهذه الطريقة الفنتازية الحاصلة التي تتداخل فيها العصور والبيئات والأحداث والشخوص.. كثقب أسود كبير للزمن والوجود والحياة والحضارة.
إن أسوأ ما يمكن تخيله بشأن سيزيف أن يعشق صخرته الأزلية، أن يشعر أنها جزء من كيانه وكينونته. وأن يتباهى بها ويغار عليها، ويمكن أن يقاتل دفاعاً عنها. كقضية وجودية مقدسة.
وهذا ما حدث في السياق العربي والإسلامي عموماً، وسيظل يحدث حتى إشعار آخر يتوقف على إعادة سيزيف اكتشاف علاقته بصخرته كعبء عبثي وعقوبة عدمية.
عندها فقط يمكنه أن يثور على لهاثه السرمدي. كثقافة أحفورية متأبية على الحداثة، ورافضة للمفاصلة بين الماضي والحاضر. بين العقل والعاطفة. بين الدين والسياسة. بين التاريخ والأسطورة..