د. صادق القاضي
على محك الأزمة الأوكرانية.. انفصام القوى اليمنية أصيل وشامل.!
من سخرية القدر. أن "الجماعة الحوثية" التي تعتبر التدخل العسكري الخليجي في اليمن "عدوانا غاشما"، ينتهك كل المواثيق الأممية.. تؤيد بحماس التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وتعتبره عملية وقائية، وإجراءً شرعياً منسجماً مع روح العدالة الدولية.! بل قامت -حتى قبل المؤسسات الروسية نفسها، مثل "مجلس الاتحاد الروسي"، وقبل الدول والكيانات الدولية التي تتبع روسيا، مثل "بيلاروسيا"- بالاعتراف بجمهوريتي "دونيتسك" و"لوغانسك"، المقاطعتين الأوكرانيتين اللتين أعلنهما الرئيس الروسي دولا جديدة مستقلة.!
الكيان الحوثي، بالمعايير الدولية، سلطة غير شرعية، ولا معترف بها أصلاً، واعترافها بهاتين الدولتين الانفصاليتين، مثل قيام "جمهورية أرض الصومال"، غير المعترف بها من أي دولة أو منظمة دولية في العالم، بالاعتراف بالجمهورية الافتراضية التي أعلنها "علي سالم البيض" خلال حرب صيف 1994م، في الجنوب اليمني.!
لا أذكر هل اعترفت دولة البيض، حينها، بتلك السلطة التي كانت تحاول عبثا اختراق المجتمع الدولي بأي طريقة، لكن. في كل حال، "قد" يبدو أن وراء الموقف العجيب للجماعة الحوثية من أزمة أوكرانيا، هدفا مماثلا، وعلاقة وخدمات متبادلة مع روسيا.
لكن الواقع، أن روسيا لا تأبه أن تذهب هذه الجماعة إلى الجحيم، وفي مقابل تأييد هذه الجماعة لهجوم روسيا على أوكرانيا، واعتباره شرعيا، ترى روسيا أن هجمات هذه الجماعة على دول الخليج عدوان غير شرعي. يجب معاقبتها عليه. كما في تصويتها مؤخرا على القرار الأممي رقم 2624.!
بمعنى أن هذا الموقف الحوثي، مجاني، بخلاف موقف جماعة الإخوان في اليمن، الموقف الحالي لهذه الأخيرة من أزمة أوكرانيا، هو استجابة مدروسة لمواقف أمريكا وتركيا وقطر منها. هذه الجماعة التي كانت طوال العقود الماضية. تعتبر أن الطريق إلى الله يمر عبر "الشيشان"، باتت مؤخراً تعتبر أن هذا الطريق لا يؤدي إلى غير الشيطان "بوتين".!
بالمقارنة.. جماعة الإخوان أكثر مرونة وخبرة وبراعة في ممارسة التناقض والانفصام في خطاباتها ومواقفها السياسية المحلية والدولية، كما أن خارطة المصالح الخاصة بها، أكثر تنوعا ومرونة وامتدادا، ويمكن أن تتعدد خطاباتها ومواقفها من قطر إلى آخر، ومن فترة إلى أخرى.
لكن. عموما. هذه الازدواجية. التناقض. الانفصام.. عاهة ذاتية متأصلة، في وعي وفكر وثقافة مختلف الجماعات الدينية السياسية.. أكثر من كونه مناورات سياسية مؤقتة، أو تكتيكات مرحلية هادفة للحصول على مصالح زمنية ممكنة.
في كل حال. هذا الانفصام حاصل -بدرجات متفاوتة- حتى لدى اليسار الاشتراكي والقومي في اليمن. هذه الكيانات فقدت كينونتها منذ عقود، اليساري اليوم شخص بلا رؤية ولا موقف، عقله وجسده مع الليبرالية والرأسمالية، وقلبه مع الشيوعية والاشتراكية، يتمنى اللجوء إلى جنة الغرب، ويتغنى بالجحيم الذي تصنعه روسيا في أوكرانيا.!
لكن الزمن لم يعد يساريا، الإسلام السياسي هو سيد المرحلة. متمثلا بمد عارم أغرق الجميع بكل أنواع العاهات والتشوهات الفكرية والثقافية والسياسية. ومظاهر وظواهر هذا الانفصام الشامل، ولدى هذه القوى جميعاً، قد يبدو أحياناً أن هذه الانفصام، نوع من الذكاء والحنكة السياسية، بيد أنه -في الأغلب- نتاج عفوي للتناقض الكامن في عمق البنى الإيديولوجية، لهذه الجماعات والأحزاب والقوى، اليمينية واليسارية. على السواء.