القضية الجنوبية في وثيقة مؤتمر الحوار.. انتهاء صلاحية أم حاجة للتحديث؟

تقارير - Saturday 27 May 2023 الساعة 08:10 am
عدن، نيوزيمن، خاص:

ما تزال وثيقة الحوار الوطني (2013-2014) إحدى المرجعيات الثلاث التي تتمسك بها الحكومة الشرعية ممثلة بمجلس القيادة الرئاسي والأحزاب والمكونات المناهضة لجماعة الحوثيين. آخر ذكر لهذه الوثيقة ورد في البيان الختامي للقمة العربية الـ32 المنعقدة مؤخراً في مدينة جدة السعودية، كما ورد ذكرها في خطاب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، بمناسبة الذكرى الـ33 للوحدة اليمنية.

عندما اتسعت رقعة الحرب في اليمن على إثر استكمال مليشيا الحوثي لانقلابها على السلطة الشرعية وإحكام سيطرتها على صنعاء في يناير 2015، كان هناك أربعة من تقارير فرق مؤتمر الحوار الوطني غير متوافق عليها، وهي: بناء الدولة، بناء الجيش، القضية الجنوبية والعدالة الانتقالية. 

من بين القضايا التسع التي تناولها مؤتمر الحوار الوطني بصنعاء، كانت القضية الجنوبية أكثرها تداخلاً من جميع القضايا، من قضية "بناء الدولة" إلى قضية "العدالة الانتقالية". كانت قضية تفرض نفسها بحكم ثقلها الوطني وتعدد أبعادها، لكن النخب السياسية في الشمال في فترة ما بعد 2011، لم تكن تختلف كثيراً عن تلك السابقة لها منذ حرب 94 وما تلاها، بل كانت في كثير من الأحيان هي نفس الوجوه والقيادات.

اليوم، وبعد عشر سنوات من النقاشات المستفيضة والساخنة في مؤتمر الحوار الوطني بصنعاء، ما زالت القضية الجنوبية تفرض نفسها بأبعاد جديدة، إضافة إلى الأبعاد القديمة المتجددة. فمطلب "استعادة الدولة الجنوبية" أصبح اليوم عنواناً أعرض مما كان عندما كانت القوى السياسية تناقش خيارات التوصل إلى صيغة اتحادية لدولة الوحدة مكونة من عدة أقاليم. وعلاوة على ذلك أصبح ما يقارب ثلث جغرافيا دولة الوحدة في قبضة مليشيا الحوثي وهي مساحة تشمل معظم جغرافيا دولة الشمال قبل الوحدة، فما الذي تبقى من اليمن الموحد الذي كان يجري الحديث عن إعادة بناء دولته الاتحادية؟ هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر مع عودة وثيقة مؤتمر الحوار الوطني مؤخراً في سياق بيان القمة العربية بجدة وخطاب الرئيس العليمي: هل ما زال في وثيقة الحوار الوطني ما يمكن البناء عليه للتوصل إلى حلول عادلة للقضية الجنوبية وفق معطيات أحداث العشر السنوات الماضية؟

فحوى القضية الجنوبية في وثيقة الحوار

تكون تقرير القضية الجنوبية في وثيقة مخرجات الحوار الوطني من 15 صفحة فقط، ومع ذلك تناولت نقاشات الفريق عدة محطات في جذور ومحتوى القضية واستخلص أعضاؤه رؤية الجذور والمحتوى والتوصيات بناء على استبيان وجهوه إلى عدد من أعضاء الفرق الأخرى، وكان اللافت في تقرير فريق القضية الجنوبية أنه احتوى في خطته على نزول ميداني لجمع الرؤى الخاصة بالقضية من أوساط الناس والمختصين والمتضررين، لكن كانت هناك عوائق للنزول الميداني كما ورد في التقرير. وإجمالاً، خلص الفريق إلى أن لجذور ومحتوى القضية الجنوبية خمسة أبعاد: سياسي، قانوني، اقتصادي، وثقافي واجتماعي. 

واعتبرت غالبية الرؤى أن بداية ظهور القضية الجنوبية كانت حرب 94 وما حدث بعدها من "إلغاء الشراكة السياسية للجنوب وتحجيم موقعه ومكانته وحضوره في المعادلة السياسية وما رافقها من ممارسات وأخطاء".

وتناولت البنود التالية لذلك أن:

- "الوحدة اليمنية هي اتفاق بين دولتين كانتا طرفين سياسيين في الشمال والجنوب إلا أن الممارسات العبثية والخاطئة التي وقعت خلال الفترة الماضية منذ قيام الوحدة والفتاوى التكفيرية، خلقت قناعة كاملة عند عدد كبير من الجنوبيين بتقويض الوحدة السلمية، وأن مكانتهم في إطار دولة الوحدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعسكرياً وأمنياً قد دمرت وضربت في مقتل".

- واقع الحرب والممارسات الخاطئة والإقصاءات قد حفزت وجذرت المشاعر الرافضة للواقع السائد وصولا إلى انطلاق الحراك الشعبي الجنوبي السلمي بكافة مكوناته في 7/ 7/ 2007، كحركة شعبية نضالية سلمية شاملة وحامل للقضية الجنوبية بعد أن أجهضت الوحدة السلمية ومشروعها النهضوي القائم على التكامل والشراكة في صياغة المستقبل الأفضل بآفاقه الرحبة الواسعة وخاصة وأنه لم يتم معالجة آثار حرب صيف 94 على مختلف الأصعدة الحياتية، السياسية والمعيشية والخدمية.

وفي البعد القانوني، نصت الوثيقة على أن أحد جذور القضية الجنوبية كان "عدم وضوح الأسس والآليات السياسية التي قام عليها مشروع دولة الوحدة الاندماجية عام 1990م، الذي تم بشكل سريع وفوري وبأسلوب غير علمي وغير واضح الملامح لمستقبل أبناء الدولتين"، إضافة إلى 12 بنداً آخر أبرزها: 

- عدم الإنجاز الكامل لمهام المرحلة الانتقالية المحددة بثلاث سنوات بموجب إعلان اتفاقية الوحدة.

- انتخابات عام 1993م لم تلب الشراكة بين الجنوب والشمال، حيث كان التقسيم الانتخابي للدوائر الانتخابية معتمداً على الجانب السكاني وليس على الجانب الجغرافي، حيث قامت الانتخابات على الدائرة الفردية وفقا للدستور المستفتى عليه.

- بعد حرب صيف 1994م تحولت الوحدة من الشراكة إلى الحكم الفردي، وتم الإقصاء والتسريح قسراً للآلاف من موظفي جهاز الدولة المدنيين والعسكريين والأمنيين والدبلوماسيين الجنوبيين بما يخالف دستور دولة الوحدة.

- الإقصاء والتهميش والإخلال بمبدأ المواطنة المتساوية.

- سقوط العديد من الشهداء والجرحى واعتقال أعدادا كبيرة من المشاركين في الاحتجاجات والاعتصامات السلمية بما فيها الإخفاء القسري لبعضهم ولفترات، وتعرض البعض منهم للتعذيب والمعاملة اللإنسانية من قبل الأجهزة الأمنية المختلفة والتي تتنافى مع الدستور والمواثيق والقوانين والصكوك الدولية الموقع عليها من قبل الدولة.

- تدني مستوى القبول للجنوبيين في الكليات والأكاديميات العسكرية والأمنية (الحربية، القوات الجوية والطيران، كلية الشرطة والأكاديميات العسكرية).

- الاعتقالات والملاحقات للناشطين السياسيين وناشطي الحراك الشعبي السلمي الجنوبي وإيقاف رواتب (اجور\معاشات) البعض منهم بصورة تعسفية واعتماد نهج القمع في مواجهة الفعاليات الاحتجاجية السلمية الجنوبية.

- عدم ترتيب أوضاع الآلاف من الكوادر العسكرية والأمنية والمدنية بعد عودتهم في سنوات لاحقة بعد حرب 1994م وحرمانهم من بعض حقوقهم القانونية.

أما في البعد الاقتصادي، فكانت أبرز النقاط:

- تصفية معظم الشركات ومؤسسات القطاع العام تحت مسمى الخصخصة وتسريح العاملين فيها وإحالتهم إلى صندوق الخدمة المدنية.

- صرف مزارع الدولة لمسئولين ولمتنفذين وتسريح العاملين والمستفيدين منها.

- منح نافدين والمقربين من نظام الحكم ما بعد 94م امتيازات في قطاع الاستكشافات النفطية.

- إعطاء معظم العقود الخاصة بالخدمات النفطية والممنوحة من الباطن لشركات خدمات مملوكة لبعض كبار المسئولين والمتنفذين بتوجيهات مباشرة ودون فتح باب التنافس.

- فرض إتاوات على الشركات العاملة في القطاع النفطي يتحصل عليها بعض القادة العسكريين تحت مسمى الحماية الأمنية.

- قيام شركات تجارية مملوكة لمتنفذين بالعبث بالثروة السمكية عن طريق استخدام أساليب غير قانونية في الصيد.

- صرف مساحات واسعة من الأراضي في المحافظات الجنوبية وخاصة في مدينة عدن تحت مسمى مشاريع استثمارية أثبتت الأيام أنها وهمية حيث لم يتم تنفيذها.

- صرف معظم المتنفسات وخاصة الواقعة على الشواطئ والمتنزهات البحرية لبعض المسئولين والنافذين وحرمان مدينة عدن من أهم مقوماتها السياحية.

وفي البعد الثقافي والاجتماعي نص تقرير فريق القضية الجنوبية في وثيقة الحوار على 16 بنداً أبرزها:

- حالة الإقصاء والتهميش والتخوين والتكفير التي أدارت الصراع بين اليمنيين وكان أساسها الصراع السلطوي متخذة الاختلاف الإيديولوجي والفكري مبررا، سواءً من بعد قيام النظام الجمهوري في الشطرين أو بعد قيام الوحدة، ما أحدث شرخا كبيرا في المجتمع اليمني.

- عدم القدرة على استيعاب التنوع الثقافي والاجتماعي مما أنتج أزمة وطنية عميقة الجذور.

- تمجيد ثقافة الحروب، والحكم بالقوة العسكرية.

- تجاهل الاختلافات الاجتماعية بين الدولتين وعدم القبول بها وازدرائها من قبل المنتصرين في حرب 94 تجاه المهزوم، والحد من حرية الجنوبيين من التعبير الاجتماعي والثقافي عن أنفسهم.

- تراجع دور المرأة والقضاء على ما تحقق لها من منجزات ومكاسب اجتماعية وثقافية وسياسية.

- الاستعلاء من قبل القوى المنتصرة في حرب 94 أدى إلى تنامي الشعور لدى الجنوبيين بأنها ممارسات هيمنة وسيطرة. وفي الوقت ذاته نمت ثقافة استعلاء متبادلة بين اليمنيين عززت من التشظي في النسيج المجتمعي.

- نهب الكثير من الآثار والمخطوطات التاريخية والقطع الأثرية وتهريب مقتنيات من المتاحف الوطنية في الجنوب بسبب حرب 94م.

- تغيير أسماء بعض الشوارع والمدارس والأحياء السكنية والساحات العامة والمعسكرات والمرافق الحيوية الهامة واستبدالها بأسماء جديدة من خارج الذاكرة الجمعية للجنوب تتواكب مع مرحلة ما بعد الحرب.

- تغيير اسم عدن التاريخي من على تلفزيونها، ونقل الأرشيف الثقافي والفني والوثائقي له وتحويل المؤسسات الإعلامية في الجنوب إلى فروع.

- العمل على إحياء ثقافة الثارات القبلية والنعرات المناطقية، وإغراق الأسواق بالسلاح والسماح بانتشاره، والتغييب المتعمد للقوانين مما أدى إلى تعميم الفوضى وتفكيك النسيج الاجتماعي الجنوبي.

- التدهور الملحوظ في الخدمات التعليمية والصحية التي كان يتمتع بها المواطن في الجنوب بشكل مجاني.

مبادئ دستورية

وتضمن تقرير فريق القضية الجنوبية 14 مبدأً دستورياً نصت على معالجات فورية لا تحتمل التأخير للبنود الواردة تحت عنوان "جذور ومحتوى القضية الجنوبية"، بما في ذلك النقاط الـ20 والـ11 اللازمة لناء الثقة، وهي النقاط التي أثارت جدلاً سياسياً في تلك الفترة ولم تُنفذ جميعها. كما نص التقرير على ضرورة دراسة خيارات التقسيم الإداري الفيدرالي للدولة الاتحادية بين الخيارين المطروحَين آنذاك: 4 أقاليم في الشمال و2 في الجنوب، والخيار الثاني كان خيار الإقليمين الذي كان الحزب الاشتراكي اليمني على رأس المطالبين به.

رؤية مكونات الحراك الجنوبي

بمقارنة حجم تقرير القضية الجنوبية في وثيقة الحوار مع الرؤية التي قدمها ممثلو الحراك الجنوبي السلمي في المؤتمر، يبدو وكأن تلك الرؤية قد تم اختزالها بصورة غير مُرضية للجنوبيين. 

تكونت رؤية مكونات الحراك الجنوبي المشاركين في ذلك الحوار من مستند رئيسي مكون من 59 صفحة، إضافة إلى تسعة ملاحق تناولت نماذج من قضايا الاستحواذ على الأراضي وقائمة بأكثر من 1200 شهيد من المشاركين في الاحتجاجات السلمية للحراك الجنوبي وبينهم ضحايا اغتيالات.

أما المستند الرئيسي للرؤية فقد شمل محتوى سياسيا للقضية الجنوبية مكونا من خمس مراحل تبدأ من 30 نوفمبر 1989 إلى 2013، ومحتوى قانونيا تناول "الأخطاء والنواقص في اتفاق إعلان الجمهورية اليمنية" و"التعارض بين نصوص اتفاق إعلان الجمهورية اليمنية التي تم بموجبها تشكيل سلطات دولة الوحدة، وبين أحكام الدستور"، إضافة إلى محتوى ثقافي واجتماعي شمل هوية وثقافة الجنوب واختلالات نظام التعليم و"تدمير البنية المؤسسية والبشرية للجنوب" والمتقاعدين قسراً ونهب الموارد النفطية والأراضي... وغير ذلك من الأبعاد التي أدت إلى تشكّل القضية الجنوبية ونمو حجمها مع كل خطأ أو ممارسة غير مسؤولة.

والسؤال الذي يطرح نفسه أخيراً أمام القوى الجنوبية والشمالية معاً، وخصوصاً تلك القوى المناهضة لمليشيا الحوثي وإدارتها العبثية لمناطق سيطرتها ونزعتها التدميرية لكل مقدرات البلاد: هل ما زالت وثيقة الحوار الوطني صالحة بكل محتواها لتكون مرجعية وطنية للتسوية السياسية، أم أنها بحاجة إلى تحديث وإعادة صياغة؟ وإذا كان محتواها بحاجة لإعادة صياغة، أليست القضية الجنوبية هي القضية الأكثر أولوية في الوضع الراهن، خصوصاً مع الميل الواضح للمجتمع الدولي لتدليل مليشيا الحوثي وفرملة القوى الوطنية المناهضة لهذه الجماعة التي أدمنت الانقلاب على كل شيء ونقض كل الاتفاقات؟!