قلق من عودة الإرهاب البحري تحت غطاء جديد.. شركات الشحن: "الحوثيون لا يُؤمَن جانبهم"
السياسية - منذ ساعتان و 11 دقيقة
رغم الهدوء النسبي الذي أعقب اتفاق وقف إطلاق النار في غزة ضمن الخطة الأميركية الجديدة، لا تزال شركات الشحن العالمية تتعامل مع البحر الأحمر وخليج عدن كـ"منطقة خطر نشطة"، في ظل غياب الثقة بالميليشيا الحوثية الإيرانية التي تسببت منذ أواخر عام 2023 في شل حركة التجارة العالمية عبر واحد من أهم الممرات البحرية في العالم.
وتقول شركات الشحن الكبرى إن تصريحات الحوثيين بوقف هجماتهم البحرية لا تحمل أي ضمانات، إذ تعتبرها "مجرد تكتيك مرحلي" في انتظار فرصة جديدة لاستئناف الإرهاب البحري "تحت غطاء جديد"، على حد وصف مصادر بحرية متطابقة تحدثت لمجلة لويدز ليست البريطانية.
وتُجمع الأوساط التجارية والبحرية على أن سلوك الحوثيين لا يوحي بوجود نية حقيقية لوقف الهجمات أو احترام المواثيق الدولية، خصوصًا بعد استمرار تهديداتهم باستخدام القوة بذريعة التطورات السياسية في غزة أو في حال نقض إسرائيل لأي بند من اتفاق وقف النار.
ضمانات غائبة ومخاوف متزايدة
قالت شركة "ميرسك" الدنماركية، إحدى أكبر شركات الشحن البحري في العالم، إنها ستستمر في تجنب عبور ممرات البحر الأحمر إلى أن يتم التوصل إلى "حل أمني مستدام يضمن سلامة السفن وطاقمها".
وأوضحت الشركة في بيان رسمي أن قرارها يعكس استمرار المخاطر الأمنية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، في ظل التوترات الإقليمية وغياب ضمانات حقيقية تحول دون تجدد الهجمات الحوثية على السفن التجارية، مشيرة إلى أن استئناف عملياتها عبر المنطقة لن يُدرس إلا بعد تحقيق استقرار أمني طويل الأمد وشامل يضمن حرية الملاحة الدولية.
وأشارت "ميرسك" إلى أن الأزمة الأمنية في البحر الأحمر تجاوزت البعد الإقليمي، بعد أن تسببت الهجمات الحوثية خلال العامين الماضيين في ارتفاع كلفة التأمين البحري وتغيير مسارات مئات السفن نحو رأس الرجاء الصالح، وهو ما أدى إلى اضطرابات في سلاسل الإمداد العالمية وارتفاع تكاليف الشحن والتجارة.
وأكدت الشركة أن تقييم تأثير اتفاق وقف إطلاق النار في غزة على الوضع الأمني في البحر الأحمر ما يزال مبكرًا وغير محسوم، لكنها أعربت عن أملها في أن تساهم التطورات الأخيرة في خلق بيئة إقليمية أكثر استقرارًا، مشددة في الوقت ذاته على أن تجارب المجتمع الدولي مع ميليشيا الحوثي أظهرت انعدام الموثوقية في التزاماتها، سواء تجاه اتفاقات الهدنة أو تعهداتها بعدم استهداف السفن المدنية.
ويرى محللون أن موقف "ميرسك" يعكس اتساع فجوة الثقة بين شركات النقل البحري والميليشيات الحوثية، خصوصًا بعد أن ربطت الأخيرة عملياتها العدائية بملفات سياسية وعسكرية خارج اليمن، ما جعلها ـ بحسب مراقبين ـ أداة تهديد عابرة للحدود، تستخدمها طهران للضغط السياسي في أكثر من ملف إقليمي.
وتؤكد هذه المواقف أن عودة حركة الملاحة إلى طبيعتها مرهونة بضمانات أمنية دولية واضحة، لا بوعود أو تصريحات حوثية اعتادت التنصل منها في كل مرة، وسط مؤشرات متزايدة على أن الهدوء الحالي في البحر الأحمر هش ومؤقت، وأن أي توتر جديد في المنطقة قد يعيد مشهد الهجمات الإرهابية إلى الواجهة مجددًا.
تحركات وتهديدات حوثية متجددة
في المقابل، تواصل ميليشيا الحوثي تصعيدها العسكري والبحري في البحر الأحمر، عبر سلسلة من التهديدات العلنية التي تطلقها قياداتها منذ أسابيع، في مؤشر واضح على رغبتها في إبقاء ملف الملاحة الدولية رهينة بيدها. وكان آخر تلك التصريحات ما أدلى به زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، الذي أعلن صراحة أن قواته "رفعت الجاهزية للعودة إلى الهجمات البحرية" في حال عدم الالتزام باتفاق غزة، ملوحًا بأن الجماعة ستعتبر أي إخلال بالاتفاق مبررًا لاستئناف عملياتها العدائية ضد السفن في البحر الأحمر.
ويرى مراقبون أن هذا الخطاب التصعيدي يكشف بوضوح ازدواجية الخطاب الحوثي، إذ تحاول الجماعة الظهور بمظهر "المدافع عن القضية الفلسطينية"، في حين أن تحركاتها الميدانية تؤكد نيتها استخدام الملف كغطاء سياسي لعودة الإرهاب البحري، وإعادة إشعال التوتر في واحد من أهم الممرات الملاحية في العالم.
وكشفت مصادر عسكرية يمنية أن الميليشيات استحدثت خلال الأسابيع الماضية منشآت ومواقع عسكرية جديدة في المناطق الجبلية والساحلية المطلة على البحر الأحمر وبحر العرب، وعززتها بأسلحة نوعية متطورة ومقاتلين مدرّبين على العمليات البحرية والهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة. وأضافت المصادر أن الجماعة دفعت بتعزيزات عسكرية ضخمة إلى مناطق الساحل الغربي، وحفرت خنادق وأنفاقًا دفاعية في المحافظات الساحلية الواقعة تحت سيطرتها، بما في ذلك الحديدة وتعز وحجة، في تحركات وصفتها بأنها "تجهيزات ما قبل الهجوم".
وأوضحت المصادر أن الميليشيا جندت مؤخرًا نحو 10 آلاف مقاتل في محافظة الحديدة وحدها، وأخضعتهم لدورات تدريب وتأهيل عسكري مكثف، تمهيدًا للزج بهم في جبهات البحر الأحمر والمناطق الساحلية. كما أن الميليشيا تعمل على إعادة هيكلة وحداتها البحرية ضمن ما تسميه "قوات الردع البحري"، في خطوة تهدف إلى تعزيز حضورها العسكري قبالة السواحل اليمنية.
ويرى محللون عسكريون يمنيون وغربيون أن هذه التحركات تأتي في سياق استراتيجية أوسع تتبعها الجماعة، تقوم على استخدام البحر الأحمر كورقة ضغط إقليمية، تحسبًا لأي مواجهة محتملة بين الولايات المتحدة وإيران، بحيث تتحرك الميليشيا كذراع إيرانية لتخفيف الضغط عن طهران من خلال تهديد طرق الملاحة الحيوية.
ويؤكد خبراء أمنيون أن هذه التحركات لا تعبّر فقط عن تصعيد ميداني مؤقت، بل عن تحول استراتيجي في تموضع الحوثيين العسكري، بما يعزز قدرتهم على تهديد الملاحة الدولية متى ما أرادوا ذلك، مشيرين إلى أن الجماعة تعمل على خلق بيئة أمنية مضطربة ودائمة التوتر، تجعل البحر الأحمر ساحة مفتوحة للابتزاز السياسي والاقتصادي.
وبحسب المحللين، فإن التهديدات الحوثية المتكررة وعمليات التجنيد والتسليح المستمرة تُظهر أن الجماعة لا تزال تراهن على خيار الحرب، رغم كل الدعوات الأممية والإقليمية للتهدئة، ما يجعل أي حديث عن التزامها بوقف العمليات في البحر الأحمر مجرد وهم سياسي لا تدعمه الوقائع على الأرض.
عمليات أوروبية متواصلة رغم اتفاق غزة
وفي ظل الغموض الأمني المتزايد في البحر الأحمر، تواصل القوات الأوروبية نشاطها العسكري ضمن مهمة الاتحاد الأوروبي لحماية الملاحة الدولية (أسبيدس)، في مؤشر واضح على أن التهديد الحوثي ما يزال قائمًا، وأن اتفاق غزة لم ينجح بعد في تهدئة المخاوف المتعلقة بأمن الممرات الملاحية الحيوية.
وأعلن الاتحاد الأوروبي أن فرقاطة يونانية من طراز HS SPETSAI نفّذت مؤخرًا مهمة جديدة لتأمين مرور سفينة تجارية في البحر الأحمر غربي اليمن، وهي الثانية من نوعها خلال أكتوبر الجاري، ما يعكس استمرار حالة التأهب القصوى لدى القوة البحرية الأوروبية، التي ترى أن خطر الهجمات الحوثية لم يتراجع بعد رغم التطورات السياسية الإقليمية.
وذكرت بعثة "أسبيدس" في بيان رسمي أن أصولها العسكرية قدّمت الدعم والحماية لأكثر من 1,177 سفينة تجارية منذ انطلاقها في فبراير/شباط 2024 وحتى سبتمبر/أيلول 2025، مشيرة إلى أن نطاق عملياتها يمتد من مضيق باب المندب حتى قناة السويس. وأكدت البعثة أن مهامها دفاعية بحتة وتهدف إلى حماية السفن المدنية وضمان انسياب التجارة الدولية التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي، خصوصًا في ظل تصاعد المخاطر المرتبطة بأنشطة الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران.
وبحسب مصادر دبلوماسية أوروبية، فإن استمرار انتشار القطع البحرية الأوروبية في المنطقة يعكس غياب الثقة الدولية في أي التزام حوثي، خصوصًا بعد سلسلة من الانتهاكات السابقة التي نفذتها الجماعة رغم تعهداتها بعدم استهداف السفن المدنية. وأوضحت المصادر أن الدول الأوروبية، إلى جانب الولايات المتحدة، ترى في البحر الأحمر جبهة أمنية حساسة لا يمكن المجازفة فيها بالاعتماد على وعود سياسية أو تفاهمات مؤقتة.
وأضافت المصادر أن أي تراجع أو انسحاب مبكر للقوات الأوروبية من مهام الحماية سيُعد "خطأً استراتيجيًا"، لأنه سيمنح الحوثيين فرصة لإعادة فرض معادلات الردع بالقوة، واستئناف عمليات الابتزاز السياسي والاقتصادي تحت شعارات جديدة، مثل "الدفاع عن فلسطين" أو "مواجهة العدوان الأمريكي"، وهي الخطابات التي لطالما استخدمتها الجماعة لتبرير عملياتها العدائية.
ويرى خبراء أمن بحريون أن استمرار عمليات "أسبيدس" في البحر الأحمر وخليج عدن يعكس قناعة دولية راسخة بأن المنطقة ما تزال على صفيح ساخن، وأن الميليشيا الحوثية، التي تملك تاريخًا من نقض الاتفاقات وخرق الهدن، لا يمكن التعامل معها كشريك موثوق في ضمان الأمن البحري.
كما يشير محللون إلى أن هذا الانتشار الأوروبي المتواصل يشكّل خط دفاع أول لحماية المصالح التجارية الغربية، لكنه في الوقت نفسه دليل على فشل المجتمع الدولي في فرض التزامات حقيقية على الحوثيين، الذين يستفيدون من كل فراغ أمني لإعادة تموضعهم واستئناف عملياتهم التخريبية.
وفي ظل غياب أي ضمانات ملموسة أو اتفاقات أمنية قابلة للتحقق ميدانيًا، يبدو أن البحر الأحمر سيظل ساحة مفتوحة للتوتر والمراقبة المستمرة، حتى تُثبت الميليشيات الحوثية بالفعل، لا بالقول، استعدادها للتخلي عن خيار العنف البحري والالتزام بالقانون الدولي وأمن الملاحة العالمية.