حضرموت.. مثلث النفط والقبيلة والسياسة يرسم ملامح مستقبل غامض

السياسية - منذ 4 ساعات و 56 دقيقة
حضرموت، نيوزيمن، خاص:

تبرز محافظة حضرموت اليوم كأكثر المحافظات اليمنية حساسية، ليس فقط لاحتضانها أكبر حقول النفط في البلاد، بل لكونها نقطة التقاء بين معادلة شائكة تجمع الثروة، القبيلة، والسياسة. 

ورقة بحثية صادر عن مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات، تكشف بوضوح حجم التحديات التي تحاصر المحافظة وتحولها إلى ساحة مفتوحة لصراع النفوذ المحلي والإقليمي. فالمحافظة تشهد تحولات متسارعة تجعل مستقبلها مرهونًا بمعادلة معقدة تجمع بين الثروة النفطية المتزايدة، والامتداد القبلي المتجذر، والتجاذبات السياسية الإقليمية والدولية. 

وفي ورقة بحثية صادرة عن مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات، أعدتها الباحثة الدكتورة رحيمة عبدالرحيم، أوضحت أن حضرموت تقف اليوم عند مفترق طرق بالغ الحساسية، إذ تتحول إلى ساحة تنافس مفتوح بين قوى الداخل ووكلاء الخارج، مدفوعة بأهمية موقعها الجغرافي وثرواتها النفطية الهائلة.

النفط.. ثروة محفوفة بمخاطر الاستقطاب

توضح الورقة البحثية أن حوض المسيلة وحقول الضبّة يشكلان شريانًا اقتصاديًا وطنيًا ومحركًا رئيسيًا لأي عملية تعافٍ اقتصادي في اليمن، إلا أن هذا الثراء النفطي الهائل لا يخلو من تحديات بنيوية وسياسية عميقة. فوفقًا للبيانات الواردة في الدراسة، تضم حضرموت ما يقارب 43 قطاعًا نفطيًا تتوزع بين منتجة وقيد الاستكشاف، مع وجود أكثر من 7 قطاعات ناشطة فعليًا وقرابة 17 قطاعًا في مراحل استكشافية، فضلًا عن قطاعات مفتوحة للاستثمار ما تزال عرضة للمساومات غير الرسمية. ويُقدَّر عدد الآبار المنتجة في عموم المحافظة بأكثر من 400 بئر، بينما تشير التقديرات إلى احتياطات قد تصل إلى 50 مليار برميل من النفط الخام، ما يجعل حضرموت في صدارة المحافظات اليمنية من حيث المخزون والإنتاج.

لكن هذه الثروة الضخمة تترافق مع هشاشة مزمنة في بنية الدولة وضعف في آليات الرقابة والإشراف، وهو ما يخلق بيئة مثالية لتغوّل الفساد المحلي وتوسع نفوذ الشركات الأجنبية وشبكات المصالح غير المشروعة. وتكشف الورقة عن أن العديد من هذه القطاعات النفطية تتقاسمها 3 إلى 5 شركات عالمية في شراكات معقدة، ما يعكس حجم التداخلات الاقتصادية التي يصعب ضبطها في ظل الانقسام السياسي والصراع العسكري الذي تعيشه البلاد.

هذه المعطيات تجعل من النفط ورقة مساومة مغرية على المستويين الداخلي والخارجي. فالقوى المحلية المتنافسة ترى في السيطرة على الحقول أو على عائداتها وسيلة لتعزيز نفوذها السياسي والعسكري، بينما تنظر القوى الإقليمية إلى حضرموت باعتبارها ركيزة استراتيجية لضمان أمن خطوط الطاقة والملاحة في بحر العرب والمحيط الهندي. وهو ما يفتح الباب أمام تدخلات مباشرة أو عبر وكلاء محليين يسعون لتأمين حصة من هذه الكعكة.

وبدل أن تتحول عائدات النفط إلى رافعة تنمية واستقرار، يهدد غياب الإدارة الرشيدة بتحويلها إلى عامل تفجر للصراعات. فالتجربة اليمنية السابقة تكشف أن الثروة في غياب الحوكمة تتحول إلى “لعنة موارد”؛ حيث تصبح مصدرًا للفساد والاقتتال بدلًا من أن تكون أداة للنهوض الاقتصادي والاجتماعي. ومن هنا تحذر الدراسة من أن استمرار استنزاف النفط خارج إطار دولة قوية ومؤسسات شفافة قد يقود إلى انقسامات أوسع، ويجعل حضرموت ساحة مفتوحة لسباق نفوذ داخلي وإقليمي يضاعف من هشاشة اليمن ككل.

القبيلة.. قوة توازن أم فاعل مهدِّد؟

تتمتع حضرموت ببنية قبلية ضاربة الجذور، تمتد عبر تاريخ طويل من التحالفات والصراعات، ما منح القبيلة مكانة اجتماعية وسياسية يصعب تجاوزها أو تهميشها في أي معادلة للحكم والإدارة. هذه الخصوصية تجعل القبيلة أشبه بميزان دقيق، يمكن أن يميل نحو الاستقرار أو يفتح الباب أمام الاضطراب تبعًا لطبيعة التحالفات وموازين القوى. فالقبائل الحضرمية لا تمثل مجرد تكوين اجتماعي، بل هي مؤسسة نفوذ حقيقية تتحكم في مسارات القرار المحلي، وتستطيع أن تفرض شروطها على أي سلطة مركزية أو إقليمية.

ويبرز اجتماع الهضبة في 12 أبريل 2025 كدليل حيّ على استمرار هذا الدور المحوري. فقد دعا وكيل أول المحافظة ورئيس حلف قبائل حضرموت، الشيخ عمرو بن حبريش، إلى لقاء موسع خرج بجملة مطالب لافتة، أبرزها إعلان خيار الحكم الذاتي، والمطالبة بتشكيل قوات خاصة لحماية حضرموت، وتحسين مستوى الخدمات، ورفض أي وصاية خارجية. هذه البنود عكست طموحًا متزايدًا لإدارة شؤون المحافظة بعيدًا عن المركز، لكنها في الوقت ذاته كشفت عن هشاشة التوافق الداخلي؛ إذ سارعت قبائل أخرى إلى رفض التفرد بالقرار، مؤكدة أن "حضرموت لكل أبنائها" وأن أي ترتيبات مصيرية يجب أن تقوم على إجماع قبلي شامل.

هذا الانقسام يكشف وجهين متناقضين لدور القبيلة: فمن جهة، تمثل قوة توازن يمكنها حماية المصالح المحلية والدفاع عن هوية حضرموت، خصوصًا في ظل ضعف الدولة وتعدد التدخلات الإقليمية. فالقبيلة تملك القدرة على تعبئة المجتمع وتوفير غطاء شرعي لأي تحرك يهدف إلى حماية الموارد أو تعزيز الأمن. ومن جهة أخرى، قد تتحول إلى فاعل مهدِّد إذا استُخدمت كورقة في صراع النفوذ أو أداة لإضعاف سلطة الدولة. فالتحالفات القبلية المتغيرة، ووجود زعامات لها ارتباطات اقتصادية مع شركات النفط أو قوى إقليمية، يجعلها عُرضة للاستقطاب الداخلي والخارجي على حد سواء.

وتشير الورقة البحثية إلى أن بعض القيادات القبلية تربطها علاقات مالية مع شبكات نفطية نافذة، ما يزيد من تعقيد المشهد ويضاعف خطر توظيف القبيلة كوسيلة ابتزاز سياسي أو اقتصادي. كما أن تباين المواقف بين من يطالب بحكم ذاتي ومن يصرّ على التمسك بوحدة القرار، يعكس أن القبيلة في حضرموت ليست كتلة صماء، بل فسيفساء من المصالح المتقاطعة التي قد تتقارب أحيانًا وتتصادم في أحيان أخرى.

لذلك، تبقى القبيلة في حضرموت سيفًا ذا حدين: فهي قادرة على أن تكون حائط صد أمام مشاريع الهيمنة أو التفتيت، لكنها قد تتحول إلى عامل تعطيل لأي مشروع وطني إن لم يُبنَ توافق حضرمي واسع يضمن مشاركة جميع الأطراف ويُحيد المصالح الضيقة عن القرار العام.

الجغرافيا.. موقع استراتيجي يضاعف التنافس

حضرموت ليست مجرد مساحة شاسعة تمتد على بحر العرب، بل هي عقدة جغرافية تربط بين جنوب شبه الجزيرة العربية وعمق المحيط الهندي، وتتحكم في واحد من أهم الممرات البحرية العالمية التي تصل المحيط بالبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب وقناة السويس. هذا الامتداد الساحلي، الذي يتجاوز 600 كيلومتر، منح المحافظة موقعًا جيوسياسيًا بالغ الحساسية، وجعلها على الدوام ساحة جذب لتجار البحر قديماً، ومركز تنافس إقليمي ودولي حديثاً. فمنذ العصور القديمة، كانت موانئ المكلا والشحر وغيرها محطات رئيسية لتجارة اللبان والبخور، واليوم تحولت هذه السواحل إلى خطوط إمداد حيوية لنقل النفط والغاز وطرق الملاحة الدولية.

هذا الموقع الفريد جعل حضرموت في قلب اهتمامات القوى الإقليمية. فـالسعودية ترى فيها خط دفاع متقدم يحمي حدودها الجنوبية، ويؤمّن منفذًا استراتيجيًا على بحر العرب يمكن أن يقلل اعتمادها على مضيق هرمز. أما سلطنة عُمان فتنظر إليها بوصفها عمقًا جغرافيًا متصلاً بمحافظة المهرة، وساحة يمكن أن تؤثر مباشرة في توازناتها الأمنية على الساحل العماني. وفي المقابل، وجدت قطر في حضرموت فرصة لتوسيع نفوذها عبر أدوات إعلامية وإنسانية، مستغلة الانكشاف الإنساني والفراغ الإداري في بعض المناطق، بينما تعمل تركيا على الاستثمار في الروابط الدينية والتاريخية، لاسيما عبر المدارس الصوفية التي تمتد جذورها في وادي حضرموت، لتؤسس لحضور ثقافي قد يتحول إلى نفوذ سياسي.

ورقة مؤسسة اليوم الثامن توضح أن هذه التداخلات ليست مجرد منافسة ناعمة، بل تتخذ أحيانًا طابعًا أمنيًا واقتصاديًا مباشرًا. فالتنافس على السيطرة أو التأثير في سواحل حضرموت يتيح للقوى الإقليمية موطئ قدم على خطوط الملاحة التي تنقل ما يقارب ثلث تجارة النفط العالمية. كما يفتح الباب أمام توظيف الموانئ والجزر القريبة—كسقطرى وعبدالكوري—في معادلات الأمن البحري الدولي.

وتتضاعف أهمية حضرموت الجيوسياسية مع هشاشة الدولة اليمنية وتراجع سيطرة المركز، الأمر الذي يحول أي فراغ في السلطة إلى مغناطيس يجذب التدخلات. فغياب التوافق الداخلي يمنح اللاعبين الخارجيين مساحة أوسع للمناورة، سواء عبر دعم فصائل محلية أو من خلال الاستثمارات النفطية والمساعدات الإنسانية. وهكذا، يصبح القرار المحلي في حضرموت عرضة للتأثير الخارجي ما لم يتمكن أبناؤها من بناء توافق داخلي متماسك يعيد صياغة العلاقة مع الجوار الإقليمي والدولي، ويحافظ في الوقت نفسه على استقلالية القرار الوطني ويحول دون تحويل المحافظة إلى ساحة صراع مفتوح.

التحدي.. بناء معادلة حضرمية خالصة

أبرز ما تكشفه الورقة البحثية هو أن حضرموت، رغم امتلاكها مقومات اقتصادية وسياسية تؤهلها لتحقيق قدر من الاستقلالية، ما زالت تفتقر إلى آلية حوكمة محلية متينة تستطيع إدارة ثرواتها الهائلة بشفافية بعيدًا عن نفوذ القوى الإقليمية ووكلاء الخارج. فالمحافظة تقف اليوم أمام خيار تاريخي: إما أن تبني نموذجًا خاصًا في الإدارة والتنمية يجعل من ثروتها النفطية رافعة استقرار، أو تبقى رهينة لتجاذبات الأطراف الداخلية والصراعات الدولية التي تتسابق على مواردها وموقعها الجغرافي.

وتشير الباحثة د. رحيمة عبدالرحيم إلى أن المعادلة الحضرمية الخالصة التي يمكن أن تضمن هذا الاستقلال ترتكز على ثلاثة شروط مترابطة، لكنها جميعًا تصطدم بعقبات بنيوية وسياسية معقدة: أولها إدارة الموارد النفطية بآليات شفافة حيث إن حوض المسيلة وحقول الضبّة، بما يضمانه من احتياطات قد تتجاوز 50 مليار برميل، يتطلبان منظومة رقابة مالية وتشريعية حديثة تضمن أن العائدات تعود لصالح المجتمع والدولة، لا إلى جيوب النخب أو الشركات الأجنبية. الورقة تحذر من أن استمرار الوضع الحالي، حيث تتقاسم شركات عالمية ومحلية الامتيازات في صفقات غير معلنة، سيؤدي إلى تكريس “لعنة الموارد” وتحويل النفط من أداة للتنمية إلى وقود لصراع محلي وإقليمي.

وثانيًا تثبيت منظومة أمنية حضرمية مستقلة، وترى الدراسة أن استقرار حضرموت مرهون بقدرة أبنائها على إنشاء أجهزة أمنية وعسكرية قادرة على حماية الحقول النفطية وخطوط التصدير الممتدة لأكثر من 130 كيلومترًا وصولًا إلى ميناء الضبّة. هذه المنظومة يجب أن تنأى عن الانقسامات الحزبية والولاءات الخارجية، وأن تحظى بدعم قبلي وشعبي واسع. فغياب قوة أمنية موحدة يفتح الباب أمام تهديدات متعددة، من عمليات تهريب وسرقة إلى تدخلات خارجية تستخدم ورقة الأمن للابتزاز السياسي.

وأخيرًا إنتاج توافق قبلي واسع وعادل، فالبنية القبلية العميقة في حضرموت، والتي برزت في اجتماع الهضبة في أبريل 2025، تمثل عاملًا حاسمًا في نجاح أي مشروع وطني أو محلي. تحقيق التوافق يتطلب إشراك مختلف المكونات القبلية والمدنية في عملية اتخاذ القرار، بعيدًا عن النزعات الانفصالية أو الفردية. فغياب هذا التوازن سيعيد إنتاج الصراعات، ويمنح القوى الخارجية مبررًا للتدخل بحجة حماية مصالحها أو دعم طرف ضد آخر.

إن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في صياغة هذه الشروط، بل في تنفيذها ضمن بيئة يمنية مضطربة تعاني من ضعف الدولة المركزية وتعدد مراكز القوى. ولعل ما يزيد المشهد تعقيدًا هو الطموحات المتعارضة للدول الإقليمية التي ترى في حضرموت ورقة استراتيجية في صراع النفوذ على خطوط الملاحة والطاقة. لذا، فإن نجاح الحضارم في بناء معادلة داخلية متوازنة—اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا—هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل مستقر ومستقل، يحوّل الثروة النفطية والموقع الجغرافي من عوامل استقطاب إلى ركائز تنمية حقيقية.