في كل بيت من بيوت قريتنا جِنْية. جنية باطشة وجبارة، متخصصة فقط في الفتك بأطفال القرية، إذا ما حاول أحدهم إغضابها.
يهاب أطفال القرية هذه الجنية، يخافونها أكثر من أي شيء آخر، دون حتى أن يروها أو يعرفوا عنها شيئا.
وإذا ما أخبرنهم الجدات الطاعنات في السن بقدومها، وعن الأطفال الذين اختفوا فجأة. والحقيقة أنهن يفعلن دائماً، كحيلة أسطورية، يكبحن من خلالها جماح تمردهم لتعود بهم إلى جادة الصواب. وإذا ما أخبرنهم بقدوم الجنية، يتركون أغلى ما يملكون. يتخلون عن ألعابهم ويعودون إلى البيت سريعًا، لا يعبثون بملابسهم، يتوقفون عن الصراخ، وينامون باكرًا.
أما الطفل المشاغب محمود الذي كان لا ينام باكرا، فقد أخذت الجنية تمسكه من ذراعيه بشدة، وتقذف به من على سطح المنزل، ولأنه كان قد نجا من الموت بأعجوبة فهو يعيش بجمجمة مهشمة.
تخبرني أمي بأن الجنية عندما كانت ممسكة بمحمود، كانت أمه تشهد الحادثة فأخذت تلح على الجنية بأن تترك طفلها ولا تأخذه؛ فكان من الجنية أن شفقت لحالها فلم ترمِه، لكنها قد أقسمت بأن المرة القادمة لن تتركه، إن هو حاول أن يتمرد ثانية ولم ينم باكراً.
لقد أحدثت القصة عند أطفال القرية رعبًا كبيرًا، ومثلت لهم درسًا واضحًا، حتى محمود نفسه تنازل عن مشاغباته وتطفلاته وأصبح هادئًا ومطيعًا، وبات يسابق بنومه غروب الشمس.
آمن محمود بأن الجنية هي من رمته، وأنه نجا من موت محقق حين أخذت أمه تتدخل في اللحظات الأخيرة. آمن ببراءة دون أن يرى جنية تسحبه من الفراش وتطير به في الهواء، آمن دون أن يسمع الحوار الذي دار بين أمه والجنية بينما هو معلق في الهواء، ودن حتى أن يجد آثار قبضتها على كتفيه.
إنها تشبه الأسطورة تماماً، لكننا كنا نلبي رغبات أهالينا خوفاً منها. أما محمود فقد أصبح يلبي رغباتها رغبةً حباً. حتى إنه بات فتاً محبوباً من قبل والديه وأناس القرية، فلا يذكر أن الأستاذ عاقبه عند دخوله للمدرسة منذ تعافيه من السقوط، وأصبحن نساء القرية يضربن به المثل "كونوا كمحمود ينام باكرًا ويستيقظ عند شروق الشمس".
قال أحد الأطفال وهو يحثهم على التمرد والكفر بهذه الجنية: كيف تخافون من هذه الجنية التي لا يعرفها أحد، ولم نرها قط.
فأجابه محمود: وأنت كيف تؤمن بالله ولم تره؟
قال الطفل: لأن من يؤمن به ينجو من نار جهنم.
أجاب محمود، وقد كانت آثار التوبة بادية في كلماته: وأنا نجوت من عقاب الأستاذ، ومن سخط الآباء، وكره الناس.
أوقف أحدهم هذا الحوار الذي بدا له فلسفيا. توقفوا ولا تتكلموا في أمور الدين والإيمان والجنة والنار. لا تتجاوزوا الخطوط، لأنكم ستكفرون.
كلمة أخيرة بس وبعدين نغلق على الموضوع _ محمود_ هل يجرؤ واحد منكم النوم دون أن يغطي وجهه حتى في أيام الحر؟ ساد الصمت ثم ذهب بصوت اللعبة.
في بيتنا توجد رسمة لوجه امرأة بشعر أسود، لم نكن نعطيها اهتماماً، لكن أمي كانت قد أخبرتني بأن هذه الصورة موجودة في كل بيوت القرية، أو بالأصح أوجدت نفسها فجأة وبصورة إجبارية، إذ استيقظوا ذات صباح فوجدوها وما كانوا لها بشاهدين.
سألت أمي: لماذا رسمت على باب غرفة عمي صالح دون البقية؟
أجابت: عمك صالح هو أكبرنا سنًا.
قلت: طيب، وماذا يستفيد عمي من بقاء صورتها على باب غرفته؟
ردت: ينام وقت ما يشاء ويستيقظ وقت ما يشاء، دون أن يزعجه أحد.
بعد تلك المسألة، أصبحت أخاف من المرور بجوار باب الغرفة. ولأن غرفتنا في الطابق العلوي فقد كنت لا أصعد لغرفتنا إلا بمرافقة أمي.
ما يذهب عن وعينا، عدم إيمان الكبار بها، لماذا لا ينامون باكراً مثلنا؟ لماذا لا يخافونها؟ لماذا لا نقول لأمهاتنا عندما يردنّ ضربنا بأن الجنية ستأتي لتنتقم لنا؛ فنحن نلتزم بأوامرها، ونطيعها، فلماذا لا نطلب منها أن تقدم لنا الحماية نظير ذلك. كما يطلب خطيب المسجد من الله النصر، مقابل إيمانهم والتزامهم بالصلاة في وقتها؟!
لكن محمود التائب قال لي ذات مرة: لا يكفي أن تلتزم بالنوم باكراً كي يتسنى لك النجاة من بطش الجنية، عليك أيضاً أن تطيع كل ما يقال لك من كبار السن وتنجح لكل ما يؤمرون به. وكأن كبار السن تربطهم شراكة مع الجنية، أو كأنها تشتغل لحسابهم.
دائماً ما كنا نجد الجنية واقفة بصف الكبار، لماذا لم تقف معنا نحن الصغار يوماً واحداً؟ ونحن الذين نقدم الطاعة، وننام مبكراً. ذلك ما كان يشغل بالي كثيراً!
لقد كانت الجنية أداة تخويف ووسيلة ضغط واضطهاد يمارسها الكبار علينا، كي يقيدونا بها ويخضعونا كلياً لهم. فمن خلال استحضارها الدائم يكبحون تمردنا، فيخفضوا بها أصواتنا قسرياً، ويقطعوا ألعابنا قبل أن تبدأ، ويعودوا بنا إلى المنازل مبكراً. فنكون بها خيولاً عند الطلب، وسلاحفَ عند الحذر.
متى سأكبر لأكفر بهذه الجنية؟! هكذا كنت أتساءل وكلي خوف أن تسمع الجنية ذلك فتخطفني.
ذات صباح جاء أبي من سفر طويل، دخل الغرفة فقبلني بحرارة مظهرا فقده الشديد لي. كان الإرهاق قد رسم على عينيه خطًا أسودَ.
خاطبتني أمي: صالح انزل إلى المطبخ سألحقك بعد قليل.
قلت لها وعلى نحو مرتعش: صورة الجنية بباب عمي صالح ستخطفني. رافقيني أنتِ إذن، أو ليصطحبني شخص آخر. لا أريد النزول وحدي؟
لم تتوقع أمي بأن هذه الجنية التي تقف معها كل مرة، ستقف الآن عائقا أمامها، وبأن إيماني العميق بها سيجعلني يوماً في مواجهة مباشرة معها. لم تتخل مرة بأن الجنية ستكون السبيل لعصيانها. ربما شعرت منذ اللحظة بأن الجنية بدأت تُفهم على نحو خاطئ، أو أنها بدأت تفقد صلاحيتها بهكذا مواقف.
قررت أمي أن تزعزع إيماني الراسخ بالجنية، وأن تجعلني أكفر بها، ربما بشكل مؤقت فقط. أجابت متعجبة: ألم أخبرك؟ لقد قتل أبوك الجنية، نعم لقد قتلها منذ زمن بعيد.
قلت مدهوشاً: ماذا؟ أبي قتل الجنية.
كانت لحظة تحرر فارقة في حياتي. مرحا مرحا ييياي، أبي قتل الجنية، عانقت أبي مكافئا إياه، ثم فتحت الباب بقوة وانطلقت باتجاه غرفة عمي صالح، فركلت صورتها بكامل قوايّ. وبفضل تلك الركلة استطاع عمي صالح أن يتناول وجبة الإفطار معنا.
خرجت إلى الحوش وأنا أردد، أبي قتل الجنية، أبي قتل الجنية، أبي حررنا، أبي انتقم لمحمود.
كان ذلك اليوم بالنسبة لي وأطفال القرية يوماً حافلا بالنصر والانتقام ومرصعاً بالحرية. أعلنا فيه كفرنا المتستر تحت الخوف، وأطلقنا حزمة من القرارات. كان أهمها النوم بدون غطاء على الوجه.
فرح كل الأطفال بالخبر، إلا محمود التائب. فهل سيعود مشاغبا، هل سيعاود الأستاذ ضربه من جديد، هل سيكره والداه..؟
ذلك اليوم سهرت إلى منتصف الليل، لم أنم، كانت المرة الأولى التي استقبل بها والدي عند عودته من الوادي، بعد أن أنهى تخزينته مع رجال القرية في الديوان، والمرة الأولى التي أشاهد بها أمي بضوء الفانوس الخافت، كأنني أراها لتوي. بدت أكثر جمالاً.
أبي وأمي أرادا النوم، فأجبراني عليّ التمدد على الفراش، جاءت أمي لتغطي وجهي فرفضت. وصرخت، الجنية قتلت ولن تخطفني.
ضحك أبي، فجادلته أمي لماذا تضحك؟
لم أسمع جواب أبي واضحاً. ربما رد عليها بلغة أكثر تعقيداً، لغة صامتة لا يستطيع طفل بسني فهمها. لكنها تركتني وذهبت سريرها وغطت رأسها باللحاف.
ذهبت لأفتح الغطاء على رأس أمي، ولأن ضوء الفانوس الخافت قد غادرنا، رأيت رأس أمي بلا ملامح. لقد بدا مشابها لتلك الرسمة الموجودة بباب عمي صالح، رسمة الجنية.
ألهذا السبب نغطي رؤوسنا عند النوم لأنها تبدو مخيفة وبلا ملامح، لكي لا تصبح وجوهنا تشبه وجه الجنية؟ أهكذا تبدو حين تخطف الأطفال؟ ربما كانت تشعر بالغيرة من وجوهنا البريئة؟!
وقبل أن أعود إلى سريري، ناداني أبي: صالح نم واتجه برأسك ناحية الجدار، إن كنت لا تريد أن تغطيه. لأن العميم إذا ما جاء، وهو إنما يأتي في هذا الوقت بالذات. إذا جاء وأنت تنظر إلى السقف سيأكلك.
العميم!!. ومن هو العميم. أجبت متعجباً.
رد أبي ساخراً: هذا يا ولدي، زوج الجنية.
...يتبع