كانت أمسية تشرد مؤلمة في شوارع محاطة بالبؤس والوجع والموت المتخفي في عمامة كهل يسعل غبار التاريخ، شوارع تشبهنا تماماً، ولمَ لا ونحن من صنعناها بأفضل مجد مزيف وتاريخ محرّف ودين مهزوز في جذوره.
تركتنا الشوارع واعتلت وجوهنا المُصفرّة وتشرّدت فينا دون أدنى رحمة أو التفاتة حانية من حجر على بشر شردتهم الظروف، وأخاطت بهم ثوب الحرب الثقيلة بالجماجم والجوع، وكثير من الأطفال والأحلام التي كانت تلهو على الرصيف المشبّع بالشمس والخُطى الزاهدة.
حزينة شوارعنا لأنها ألفت وجوهنا العابرة سنوات طويلة، أُلفة مغايرة لوجوه اليوم الغابرة الحزينة، حفظت أسماءنا دون أن تخطئ في وجه غريب بُعث من قرون الحرب، تُدرك معاني الإيماءات الصامتة والتعابير الجاحدة بين حاجبين لأنثى تخبّئ وجهها خلف ستار من الليل المظلم، تُصافح كهولة المعمّرين بحنان الوداع الأخير، وتستقبل مولودا جديدة بحرارة المحبة.
لقد ابتلعنا الخطوات الزاهدة بين حصى الرمال، وأخفينا خلف تجاعيد وجوه الحرب هذه أكثر من حلم وأفظع من ألم وأعمق من التناهيد التلقائية، نمشي في اتجاهات مظلمة نحو الدرك الأسفل من الاتقاد، نمضغ اللا شيء ونبتلع الهواء صفير الإنذار لحالة وصلناها من الخطر المغرور بالأنفة والوقوف الذي لا يستند إلا على الخيال الأعرج.
شاحبة هذه الشوارع المكتظة بالبؤس والتشرد، والتلوث القادم من حاملات المقاتلين إلى الجبهات، وحاملات النعوش العائدة بهم، أصوات منكسرة لا صدى لها إلا السعال الذي يليها، وبكاء كسحابة أثقلها الوجع فأمطرته حتى أصبح أكوام من الأشلاء والأحلام الموؤودة في مهدها.
ظننت أنها لا تشيخ ولا ينتابها الملل، وسقط هذا الظن عندما رأيت أن كل العابرين لا يحملون أعمارهم ولا يعرفون تواريخ صرختهم الأولى مع الحبال السرية، جميعنا نمشي فيها دون ملامح إلا ما تتعرف به علينا من الهموم والأحزان وتراكم الدنيا على كواهلنا، وأحياناً بما نتلوه من الآيات والتباتيل نحو السماء المقفلة.
شوارع قديمة مشيّدة على الرصيف، ممشى دموعنا وقوتنا وسحر الكون بنا، لم تقِنا من جور أنفسنا على ذواتنا، ماتت بلقيس مفتونة بسليمان النبي بعد أن تزوجها خِفية من الجن، خلّفوا شوارع متشردة عبر التاريخ في وجوه ذُريّتهم التي ورثت منهم "الحرب" ذروة الحقد عند الجن بعد أن كشفوا الزواج النفعي بين الملكة والنبي.