د. حمود العودي

د. حمود العودي

تابعنى على

أدعياء الدين في خدمة السلطة (2 - 4)

Thursday 21 February 2019 الساعة 02:51 pm

* تمهيد:

الحديث في السياسة أو الاقتصاد أو العلم أو الحرب أو حتى الأدب والفن هو من الأمور التي لا تُحمل على أي محظور يتجاوز حدود اختلاف الرأي ووجهات النظر أو صراع المصالح الفردية أو الجماعية بحق أو بدون حق، وفي نطاق الأفعال البشرية الخالصة التي تبدأ منهم وتنتهي بهم أو عندهم صواباً أو خطأً وحقاً أو باطلاً.

أما حينما يتجاوز الحديث في مثل هذه القضايا بشكل عام أو أياً منها إلى ما وراء أو ما بعد أقوال وأفعال البشر من الأمور العقائدية والدينية، فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً وخطورة، لأن من شأن إقحام الشئون الحياتية اليومية أو الاعتيادية من أقوال وأفعال البشر، والسياسية منها بالذات، في النطاق العقائدي لا يتوقف عند مجرد تعطيل قدرة العقل والمنطق على التعامل الموضوعي والواقعي مع شئون حياتهم الاعتيادية فحسب، بل والانحراف بالوظيفة والدور الجوهري للعقيدة الإيمانية والدينية عن مكانها ومسارها الصحيح، كمنظومة من القيم الروحية والأخلاقية العليا التي تسمو بحياة الإنسان عن المألوف والتأمل فيما وراءه، وفي المجهول مما في علم الله وكونه اللانهائي، والانحطاط بها إلى المألوف من صغائر الأمور الحياتية اليومية والاعتيادية التي هي من شأن أقوال وأفعال البشر بمقتضى ما منحهم الله من نعمة العقل ومسئولية التكليف.

وهذا هو ما جرى في الماضي ويجري حتى اليوم بالنسبة لتوظيف الدين الإسلامي، مع الأسف، وعقائده الإيمانية السامية في الكثير من تفاصيل الحياة اليومية للناس بشكل عام من الأمور الاعتيادية التي الأصل فيها الإباحة، بدءاً من حلق الشارب من عدمه، وإطالة الثوب الأبيض من قصره، وحتى مجال السياسة على وجه التحديد، لا من منطلق النصح والإرشاد أو الاستحسان والاستهجان أو الرأي والرأي الآخر المحمول على الخطأ والصواب باعتبارها من الأمور الاعتيادية التي الأصل فيها الإباحة، بل من منطلق التحليل والتحريم المباشر، بل والتجريم والتكفير الممقوت مع الأسف، وفي مجال السياسة بالذات ولغرض ما في نفس يعقوب، بدءاً من مسخ المفاهيم إلى ضدها، وتحويل الدين إلى "ناطق رسمي" للسياسة بدلاً من كونه مرجعاً لها، والتقول على كتاب الله وسنة رسوله بما ليس فيه، ومن مواقع متناقضة طبقاً لتناقضات المواقف والمصالح السياسية وما تشتهيه أهواء ومنافع السياسيين، ضاربين عرض الحائط بأصل حكم السلطة في الإسلام كحق مطلق للناس، ومعيارها الأول والأخير المرتبط بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم، وهذا هو ما نحاول البحث فيه في هذه الرسالة بشكل عام، وما يتعلق بواقع الحال في اليمن ومحنة ثورته السياسية الشبابية السلمية على وجه الخصوص من خلال الآتي:  
 
* أولاً: خطورة مسخ المفاهيم إلى ضدها

إن من أكثر الأمور خطورة وإضراراً بمنطق العقل والعلم والمصالح الحياتية العامة للناس هو أن تمسخ مفاهيم ومضامين الأشياء الخيرة والعظيمة في التاريخ والحياة العامة في كثير من المجتمعات والأمم وتتحول إلى ضدها إلى حد كبير، كمفاهيم الاشتراكية والديمقراطية والإمامة وحتى الاستعمار بل وحتى الدين نفسه مع الأسف، والتي يحمل كل منها في دلالته اللغوية والموضوعية مضامين اجتماعية وإنسانية سامية، كالعدالة والمساواة الاقتصادية والاجتماعية في الاشتراكية، والحرية والشراكة السياسية في الديمقراطية، والقدوة الحسنة والمثل الأعلى في الإمامة، وعمارة الأرض لخير الناس في مفهوم الإستعمار، وحتى سمو الإنسان المادي والروحي كمفهوم جوهري  للدين، حيث يصبح المفهوم العكسي السيئ هو السائد حينما تصبح الاشتراكية كفراً والديمقراطية غوغائية، والإمامة كهنوتاً ظالماً، والاستعمار غزواً واستغلالاً، وحتى الدين يصبح أفيوناً قديماً أو إرهاباً جديداً.

ويكمن وراء مثل هذا المسخ والتحول السلبي لمسميات ودلالات الأشياء العظيمة والمفيدة سببان رئيسيان لا ثالث لهما، وهما:

السبب الأول: ويتمثل في خوف المتضررين من تأثير وفعل هذه الأشياء العظيمة على مصالحهم غير المشروعة، وعجزهم عن دحضها بحجة العقل والمنطق، فيعمدون بدلاً من ذلك إلى مسخ وتشويه مضامينها، وإلباسها ثوباً غير ثوبها تمهيداً لحظرها ومحاربتها، كما فعل ويفعل الرأسماليون والمستغلون في كل مكان وزمان فيما يتعلق بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية بشكل عام، وتحويلها إلى دلالة عكسية على الكفر والإلحاد، وكما يفعل الطغاة والمستبدون السياسيون فيما يتعلق بالديمقراطية وتحويلها إلى دلالة على الفوضى والغوغائية والفساد في الأرض، وحتى حقائق العلم الهامة كالراديو والتلفزيون تصبح من عمل الشيطان الرجيم.

السبب الثاني: أما السبب الثاني فيتعلق بسوء استخدام المفهوم نفسه من قبل القائمين عليه واستخدامه ككلمة حق يُراد بها باطل، كاستخدام مفهوم الإمامة وتحويله من قدوة حسنة ومثل أعلى إلى طاغوت وكهنوت متسلط، وكاستخدام وتحويل مفهوم الاستعمار من عمارة الأرض لخير البشر إلى استعبادهم واستغلالهم بغير حدود، وديمقراطية الـ99.9%، وحتى أديان الله الحقة التي كثيراً ما يتم استخدامها وتوظيفها سياسياً من قبل دعاتها وأدعيائها على خلاف مقاصدها السماوية والإنسانية العظيمة، بحثاً عن مصلحة بغير حق أو نصرة لباطل غير مشروع، بدءاً من صكوك الغفران مروراً بمرجعيات الزور والبهتان وحتى فتاوى الساحة والميدان.

* ثانياً: الأصل في الدين الإسلامي أن يكون مرجعاً للسياسة لا ناطقاً باسمها

في ضوء ما سبق، سنلاحظ ونستنتج بأن الدين الإسلامي الحنيف هو من بين أكثر المفاهيم والقضايا الإنسانية العظيمة عرضة للتحريف وسوء الاستخدام والتوظيف السياسي بما لا يتفق وجوهره الحق، ومن بين أكثر الجوانب إساءة وانتقاصاً لديننا السماوي الحنيف أن يصبح مجرد "ناطق رسمي" للسياسة ومقاصد السياسيين، بدلاً من دوره الأصل كمرجعية وحجة عليها وعلى غيرها من شئون الحياة البشرية، فالسياسي اليوم هو من يقرر دور ووظيفة الدين ويستنطقه بما تهوى نفسه ويخدم مصالحة، سلطة كان أم معارضة، مع الأسف الشديد، وبذلك يتحول الأصل النقي في الدين إلى فرع ملوث، والقاعدة السمحاء فيه إلى استثناء معوج، والرأس في موضع القدم، ما يعني انقلاب الأبيض إلى أسود والأسود إلى أبيض باسم الدين، وتضيع الحقيقة والبصر والبصيرة، إن لم يضع دين الله الحق نفسه بين تقصير دعاته وافتراءات أدعيائه من أمثال خطباء الساحة والميدان وفتاوى المرجعيات والإخوان.

لقد استرخص الكثير من دعاة وأدعياء الدين الإسلامي في اليمن وغير اليمن أنفسهم كثيراً أمام السياسة إما خوفاً أو طمعاً، وربما جهلاً وتجاهلاً، وقبلوا بدور "الناطق الرسمي" باسم هذا الطرف أو ذلك في السلطة أو المعارضة، بل ولم يتردد الكثير منهم من لعب الأدوار المزدوجة يوم هنا ويوم هناك، فمن أفتوا بالأمس غير البعيد وهم في قصر الرئاسة بتكفير الجنوب واستباحة أهله من أجل علي عبدالله صالح، هم أنفسهم من أفتى ضده  في ساحة التغيير ومن أجله في ميدان السبعين وقصر الرئاسة رغم أنه هو نفسه "علي عبدالله صالح" لم يغير أو يتغير من 94 إلى نهاية ولايته في 2012 إلا وقد كانوا بالأمس في ساحة التغيير وفي ميدان السبعين في نفس الوقت، وقد نجدهم غداً في الموقع المضاد بعد أن رحل وتغير حال السياسة ووجوه السياسيين مؤخراً.. فهل ننتظر فتوى أو خطاباً دينياً آخرَ من موقع مضاد إذا ما رجحت المنفعة الشخصية هنا أكثر من هناك، وهو ما يفعله الكثير اليوم بين عشية وضحاها من أدعياء الدين تحت الطلب، دونما حاجة لذكر أسماء، ممن ارتضوا احتكام الدين لمكر وخداع السياسة بدلاً من احتكام السياسة لشرع ونداء الدين، وأن يكونوا هم شهود زور السياسة بدلاً من كونهم قضاة فيها مع الأسف الشديد، و وا أسفاه على من ابتاع دينه بدنياه خوفاً أو طمعاً!! إنه الإسلام السياسي بدلاً من سياسة الإسلام.

* ثالثاً: خطأ التقوُّل على كتاب الله وسنة رسوله بما ليس فيهما طمعاً في السياسة أو خوفاً منها

لقد أثقل الكثير من دعاة وأدعياء الإسلام السياسي، بحق وبدون حق، مسامع الناس، وأقلقوا مشاعرهم في الفترة الماضية، وما يزالون بما لا يحد من الاقتباسات الحقيقية من كتاب الله المتشابه وغير المتشابه والناسخ والمنسوخ من جهة، وسنة رسوله المتفق عليها والمختلف فيها من جهة أخرى، وفسر ذلك كل منهم بما يحلو له من المعاني والدلالات المنافية لجوهرها، وبما يتناسب مع خدمة مقاصد السياسة أو ما يطلبه السياسيون منهم على الأصح، وليس وفق أصولها ومقاصدها الشرعية والإنسانية الحقة، بل وتقولوا على الله ورسوله والكثير من خيار خلقه بما لم ينزل الله به من سلطان ولم يثبت عن سنة رسوله أو خيار خلقه من بعده، إلا ما هو ثابت ومروى عن أسلاف هؤلاء الأدعياء عبر التاريخ ممن اعتادوا بيع دينهم بدنياهم إما خوفاً أو طمعاً، وما أكثرهم في تاريخ الإسلام والمسلمين كما هم في حاضره، بدءاً بخطأ التقول على الله بوجود (ولي أمر) في الإسلام، وانتهاءً بالتقول على سنة وسيرة رسوله وآل بيته وصحابته بما ليس فيها.

والموضح كل ذلك تفصيلاً في الحلقة القادمة...

يتبع

> إلى الحركة الإسلامية اليمنية: ولدتم تابعين وشِبتم عاجزين‬ (1 - 4)