تَوَّهم "التجمع اليمني للإصلاح" مع تأييده لعاصفة الحزم بأنَّه على بُعد خطوات قليلة من الظفر بفرصته التاريخية التي ستُتيح له الانفراد بحكم اليمن. خاصة وأنّ زعيم أكبر الأحزاب اليمنية "المؤتمر الشعبي العام" كان آنذاك يقبع في الضفة المخالفة، إلى جانب "الحوثيين".. أمّا بقية القوى السياسية التي أيدت مثله "التحالف"؛ فيصعب عليها منافسته. فهي -بحسب رؤيته- لا يؤبه لها، وذات تأثيرٍ لا يكاد يبين في خِضم شعبيته التي تكتسح الساحات.
وبذلك غفل هذا الحزب الإسلاموي عن رؤية علامات الاستفهام المنتصبة في مواجهته من قبل دول التحالف، وتحديداً (السعودية والإمارات).. على خلفية تورط بعض قياداته منذ عام 2011 في حماقات أساءت لهما، وعُدَّت من أسباب صعود وتغُّول "الحوثيين" وتفشيهم خارج منطقة نفوذهم.
إذ لم يكتفِ (كما كان متوقعاً منه كحزب معارض) بالانخراط في "ثورة الشباب" ضد الرئيس "علي عبدالله صالح"، وقيادتها لاحقاً لتغيير نظام الحكم في اليمن.. ولكنه بدا راعياً ومُشجعاً و -في أحسن الأحوال- متهاوناً مع مظاهر مُسيئة ومستفزة لدول الخليج، باستثناء" قطر" التي تكفلت بدعم وتمويل معظم مُستلزمات الساحات.
فَمع نشوة النصر والابتهاج بالجموع الغفيرة، وتشكيل حكومة "محمد سالم باسندوة" أُصيبت بعض الشخصيات القيادية المنتمية له بـ"هوس تصدير الثورة" وصدرت عنها تعليقات مُسفة وغير لائقة تناولت حكام الخليج، واصفة إياهم بـ"العجزة الذين يحكمون من غُرف الإنعاش".
كما تصاعدت وتيرة هجومهم عقب إسقاط الرئيس المنتمي للإخوان المسلمين في مصر "محمد مُرسي" وتولي الرئيس الحالي "عبدالفتاح السيسي"، ولم يَدخروا جُهداً في اتهام الإمارات والسعودية بضعضعة "الإخوان" وإسقاط دولتهم.
وفِي هذا الصدد.. قد يقول قائل: إنّ طبيعة العمل السياسي ترفض التكلُّس والجمود، وتقتضي الديناميكية، التي قد تُفضي إلى تغيير المواقف وفقاً للمتغيرات، فلا ديمومة لعداوات أو صداقات.. وطالما جاهر الإصلاح بتأييده لعاصفة الحزم ورَحب باستجابة السعودية -وحلفائها- لاستغاثة "هادي"؛ فمعنى ذلك تبرؤه من كل التصريحات النَزقة التي تفوهت بها بعض قياداته، وبالتالي، فلا تثريب عليه.. ومن الإجحاف استمرار لومه وتأنيبه، فضلاً عن معاقبته على ماضٍ قد تولى، وهذا استنتاج صحيح لا مُشاحة فيه..
وكان واضحاً خلال العامين الأولين من الحرب أنّ "الرياض" و"أبو ظبي" قد تجاوزتا عما سلف.
لكن، فيما بعد، تراجع موقفه ليصبح محل ارتيابٍ واتهام، بسبب عزوفه عن التماهي مع المقاطعة المفروضة على "قطر"، وتعامله مع التسريبات الإعلامية المُنبهة له بنوع من التغاضي.
فما فتئت وسائلُ إعلام دول التحالف تتحدث عن استمرار قياداته في التواصل، ومد حبال الود، وتلقي الدعم من إمارة قطر.. المُتهمة بالتآمر ودعم الإرهاب في أكثر من دولة، ومنها اليمن.
وأشارت إلى أنَّه على الرغم من مسارعة دولة "عبدربه منصور هادي" بقطع علاقتها مع قطر، إلاّ أنّ ذلك الإجراء لم تتبعه خطوات جدية تؤكده وتدعمه على الواقع، وظل تواصلهم مستمراً من خلال قيادات في الحزب أو الحكومة.
كما أفصحت تقارير صحافية عن ضخّ أموال مصدرها "الدوحة" إلى بعض المحافظات اليمنية بواسطة قيادات مُقربة من الرئاسة، علاوة على ما تقدمه من تمويل لثلاث قنوات فضائية مُسجلة بأسماء قيادات في الإصلاح. واعتبرت ذلك من قبيل عدم اكتراث هذا الحزب بأدبيات "عدو صديقي عدوي" التي تحكم سياسات المتحالفين.
ولعلّ ثقتهم بتجمع الإصلاح كانت ستبقى وتتحسن، لو أنّ قياداته تجنبت استغباء السعودية والإمارات، والاستخفاف بهما، وتعاملت مع إشكالات وتعقيدات الحرب بما تستحقه من جِدية واهتمام، لكنهم -أيضاً- وعلى الرّغم من إعلان تنصلهم من الارتباط بالتنظيم الدولي لـ"جماعة الأخوان" (الذي كانوا يدافعون عنه باستماتة إلى ما قبل تأييدهم عاصمة الحزم بساعات)، عمدوا لتشجيع نشوء تجمع "إخواني" رديف في تركيا ومصر، تدعمه "قطر" ليكون لهم بمثابة "احتياطي" في حال لم يَقبل التحالف توريثهم تركة النظام السابق... ولَم تُعر هذه القيادات انتباهاً للانتقادات الموجهة إليها بترك اللعب على حبال متعددة ومتناقضة.
صحيح أنّ ثمة قيادات إصلاحية لاتزال ترى أنّ مصلحة حزبها تكمن في التشبث بالتحالف وقطع كل الأواصر مع الدول التي تختلف معه أو تخالفه.. إلاّ أنَّ الأصح أيضاً أنَّ حزبهم بات يعاني ازدواجاً في خطابه تجاه عاصفة الحزم. فهناك إصلاحيو الداخل، وإصلاحيو قطر وتركيا.. وأيضاً إصلاح السعودية.
والاكتفاء بتجميد عضوية إحدى قياداته "توكل كرمان " -بعد الشكوى منها-، منحها الحرية أكثر، ونزَع قيد الالتزام الحزبي عنها.. ففي الوقت الذي ينفي رئيس الحزب "محمد اليدومي" أية علاقة لهم بالإخوان، أكدت تلك الناشطة في منشور لها أنّهم "إخوان"!! - وهي مُحِقّة - مع أنّها كانت ضد أي ارتباط للإصلاح بالإخوان المسلمين سابقا.
وَمِمَّا يجدر ذكره قول "اليدومي" في منشور له قبل أشهر: "إنَّ التحالف لن يتركنا في منتصف الطريق" وكأنَّه كان متيقناً أنَّه يؤدي دوراً استثنائيا لفترة مؤقتة ويُعبر عن مخاوفه من الاستغناء عنه..
في أحسن الظن: قيادة الإصلاح في "الرياض" غير قادرة على تحديد موقف واضح وحاسم إزاء القيادات الخارجة عّن التوجه الذي تدعمه.. أو حتى الفكاك من تأثيراتها، بعدما باتت مُستنفرة للإساءة للسعودية وبقية دول التحالف، لصالح دولة قطر التي لا يجرؤ أبناؤها - ولا يُحسنون- استخدام الألفاظ النابية، التي يستخدمها هذا الفصيل الموجّه...
وعلى ذلك فقد وجد التحالف نفسه بين خيارين: سيّءٍ وأسوأ، وفقاً لتعبير ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان".
وتَخَلَّقت هذه الحرب عن أهداف جديدة، أو أهداف كانت خفية.. ولَم يعد الحوثيون فقط المستهدَفين الوحيدين، ولا النصر عليهم فحسب هو العنوان البارز.. وإن كان الأبرز حتى اللحظة..
وتعبير "سيّء وأسوأ".. لا يحتاج لشرحٍ أكثر بعد ما جرى في أزمة "سُقطرى"، التي استغلها الإصلاح (بمكر ودهاء يُحسد عليه) في تهييج الرأي العام اليمني، ولفت أنظار العالم بما يخدم ضغوطاته على السعودية والإمارات، وهو ما أشار إليه بيان "الحزب الإشتراكي" بشكل ضمني، وتبدّى في تصريح لقيادي بارز في "الوحدوي الناصري" (واللذين اتفقا على المطالبة بمعالجة وضع مؤسسة الرئاسة، بما يوحي بأن الرئيس ونائبه صارا يتبعان حزباً مُحدداً).. لأنَّ ما حدث في "سُقطرى" كان بحسب بيان إماراتيٍ أكدته قيادات جنوبية: "تحسُّباً من استغلال الجزيرة فيما يعرقل أهداف التحالف.. ولا علاقة له بسيادة اليمن، أو ملكيتها التي تدعمها دولة الإمارات"..
كما كان لافتاً في "بيان" الأحزاب (التي تَصدَّرها "المؤتمر الشعبي العام" التابع لـ"هادي" إلى جانب "الإصلاح" وآخرين، باستثناء الاشتراكي والناصري) تحميلهم قيادة المملكة العربية السعودية المسؤولية عمّا جرى وقد يجري، ولسان حالهم يردد مقولة "اللي شبكنا يخلصنا" مُعللين ذلك بأنّ طلب الاستعانة والتدخل تّم إرساله لقيادة السعودية وحدها وهي من اختارت حلفاءها، في إشارة لدولة الإمارات.
وثَّمة من يزعم داخل هذه الأحزاب أنّ هذا البيان صِيغ بإيعاز سعودي للضغط على الإمارات في إطار التنافس بين البلدين الذي ترجحت كفته مؤخراً لصالح الأخيرة.. وحَرص "هادي" ومعه تجمع "الإصلاح "على تأجيجه للتخلص من نفوذ الإمارات..!!
ويبدو هذا الزعم مبالغاً فيه.. وقد سبق لوزير الخارجية السعودي نفيهُ في مناسبات سابقة.
وعلى ذكر حُمى البيانات التي أصابت عدواها كُل من له مطمعٌ في اليمن، فقد أصدرت تُركيا مساء أمس بياناً شديد اللهجة اعتبرت فيه ما أسمته "التطورات الإماراتية الأخيرة في سُقطرى" تهديداً لوحدة اليمن وسيادتها، وكأنَّ ما مضى من تمزيقٍ لم يكن مُهماً ولا مُهدِّداً. ودعا البيان التركي لاحترام هادي، في تأكيد على دعم شرعيته وبقاء سلطته.. والطريف أنّ بيان "أردوغان" احتفت به فضائية "الجزيرة" بشكل مبالغ فيه بعد ساعات من تعيين مدير جديدٍ لها، تنحدر جذوره من سُقطرى، وفِي لقبه مغزى لا يخفى على فطِن.
كما أنّ الولايات المتحدة كانت قد أصدرت أمس الأول بياناً طمأنت فيه الأطراف المتوجسة بأنّ ما يحصل في الجزيرة لا يستهدف وحدة اليمن ولا ينال من سيادتها.
وكان من المُلاحظ منذ بداية الحرب أنّ بعض الأطراف المناهضة للحوثيين في إطار التحالف، تنوء كواهلها بملفات غير مرغوبة؛ فهناك قيادات موضوعة على قوائم الإرهاب، وأخرى أَفسدت علاقة تنظيمها مع السعودية خلال العقود الأربعة الماضية، لتخبطها بتأييد كل ما هو معادٍ للمملكة.. فتارة يسارعون للمباركة لـ"الخميني" الذي بدأ ثورته بتهديد الخليج، وأخرى لـ"صدام" بعد احتلاله للكويت ...
ولاحقاً تبشيرهم بعودة "الأتراك" للمنطقة، فضلاً عن دفاعهم المستميت عن الإرباكات التي تخلُقها "قطر"، ومنها مشاركتها في تحويل الثورات السلمية للربيع العربي إلى قتال عقائدي مُسلح جلب المتطرفين من كل حدبٍ وصوب.
ويبدو أنَّ هذه الحرب جاءت لتفرض واقعاً جديداً، ينبغي عليهم تقبله...
مالم فإن التطورات الراهنة التي حيكت خيوطها منذ فترة طويلة ستعصف بهم.