عشت لأشهر في تعز، اندمجت مع كل الفئات، مشايخ ومسؤولين، كُتاباً وصحفيين، تجاراً وأناساً عاديين، من مناطق محررة ومناطق محتلة، لم أوفر جهداً وأنا أتحدث مع الجميع، بالجميع ألتقي، والجميع يهمونني!
عشت ولمست تلاشي جذوة النضال، ليس في وسائل التواصل فحسب، بل في العمق، بمجالس المقيل، في الاستراحات، في الباصات، بين الناس، والكل ينشط بمجالات أخرى، كمن عجز وسئم وتراجع.
هذا نداء واستجداء، وأنت تتحدث معهم بحرارة الواجب تشعر أنك شططت، وتتكلم كما لو ترقص في مجلس عزاء، فالكل يبحث حالياً عن نفسه، لم يعد أحد يبحث عن تعز، ضاعت تعز وقضية وحصار تعز!
تعز حيوية أكثر من اللازم، لكن بلا هدى، والملل هو القاتل الأخطر في العالم، الملل فقط يمكنه أن يدفن قضية وإلى الأبد، وقد أصيبت تعز بالملل، فالعسكري ملول جداً، الصحفي كذلك، المسؤول، والمواطن.
فقدان الإدراك بمن يحرس المدينة وكل هذه الحياة هو الأخطر، يعيش الناس هنا غير مدركين أن هذه الفسحة من الحياة والجمهورية ومن الأمنيات تحرسها هامات وقامات، دماء تسكب على خطوط التماس، وزوجات يترملن، أولاد يتيتمون، وتتلاشى عائلات، لكن أنت وسط المدينة تذهب وتجيئ وتعيش حياتك بطلاقة تنسى أن هناك رجالاً في الجبهة، يفتقرون لسلة غذائية، لشيء يقيم حياتهم وهم يحرسون المدينة، وكأن في بالك ليس هناك حرب وأبطال بالتماس.
ذات مرة، أضفت أسماء بعض الجند، الفقراء، بعمل خيري وسلال غذائية، كمية الشكر منهم ثم شهرياً التواصل والسؤال عن إمكانية أن تؤتى الفرصة مرة أخرى أصابتني بالبكاء، والفجيعة، والمفروض أن نحترق لأجل أن نعطيهم كل شيء، فالفعل الخيري حتى يتحاشى الرجال، يذهب لطبقة شكلتها الظروف، دون قصد، وفي دائرة واحدة، الدائرة التي لا تعرف أي شيء، ولا يمكنها أن تضحي بمعركة.
زارني إلى البيت شباب من شرعب ومخلاف، تحدثوا عن كل شيء، والمعارك، من الساحل إلى عدن إلى الشام، وحتى عن أوكرانيا، وأكثروا.. صحت بهم فجأة: وأين شرعب في حديثكم، أين مخلاف؟
يستشهد الرجل في الجبهة ولا يعلم أحد، حتى الرثاء الذي كان يحدث، للبطل، ذهب مع كل شيء.. لا صورته ولا تأبينه ولا الكتابة عليه، وتحول إلى خبر مجرد كما لو مات تسعيني أهلكه المرض.
الشللية، والكيانات الوظيفية، والبحث عن عمل، والطيران إلى القاهرة، وتكريم اللامناضلين، هذه دوائر تستهلك المدينة، وكذلك أن الجزء المتضرر من الحصار لا صوت له، يندر أن تجد شرعبياً أو ماوياً، ومن مقبنة أو التعزية، يتحدث بحرقة عن بلاده، أو معركته.
الفيسبوك أيضاً عمق هذه المشكلة، تحوله إلى داعم للهوامش والتفاهة، لو لم أبالغ، جعل المشهورين حتى يتسابقون خلف الصيد الثمين من الإعجابات، أغرقت صور خط الكدحة وخط الضباب وسائلنا، الذين قادوا المعركة بكلمة سلطانية ذات يوم أراهم وقد انحرفوا وجهة التفاعل، فالتفاعل من يحكم على صاحب الرأي.
لا ألوم الناس، ألوم فقط النخب، فالناس على دين النخب، وألوم سنوات، سنوات الرماد، لكنّ وضعاً كهذا يجب أن ينزاح وخطابا وطنيا يجب أن يتشكل، وابناء مناطق محتلة يجب أن يعلموا المصير الحقيقي لهم، فهم أولى الناس بالنهوض، بالكلام، بالفعل المقاوم، والحيوية.
من صفحة الكاتب على إكس