الموت أن يختفي إنسان تحبه وإلى الأبد.
الموت ألا ترى صاحبك أو قريبك أو أي شخص تحبه وإلى الأبد.
وهذه الكلمة قاتلة:
الأبد.. الأبد.. الأبد.
أدرك لأول مرة معناها، وسرها الرهيب.. سر الأبد.
أن يذهب عبدالرحمن الحربي وإلى الأبد، لن أراه مرة أخرى، وسأفتقده طيلة حياتي، هذا لو كتبت لي حياة باقية، أشعر بتلاشي روحي.
سألني أحدهم يوم أمس: هل عبدالرحمن من أقربائك؟
صحت به: لا.
لكنه أقرب من دمي، وكأنه كل أهلي.
صحت به: هل يجب أن أحزن وأموت حزناً على أقربائي فقط..
أين قرابة الروح والمبدأ والمعركة وسنوات النضال؟
عبدالرحمن قريبي العاجل والآجل، جمعتنا المعرفة بأول رصاصة أطلقها هو ضد الكهنة في الحيمة، حيث الانتفاضة المكرمة، كان هو ببلاده يقاتل وكنت أنا أتابع من بلادي.
هو من الحيمة وأنا من مخلاف، عندما سقطت الحيمة شعرت أن شيئا مني سقط، ولم أكن أعرف عبدالرحمن الحربي بعد، بل الروح تألف الروح قبل المعرفة.
غادر الشيخ سعيد الحربي وأولاده بلاده إلى المدينة عقب تقديم واجبهم المقدس، وهم أشجع من قال: لا، بوجه الكهنة.
غادرت بلادي بعدهم بسنة إلى تعز، وهناك ألتقينا، تعرفنا، وبأيام فقط صرنا بيتا واحدا، وقلبا واحدا، وهوى واحدا، ومسارا واحدا، من تعز إلى الساحل الغربي.
عرفت الحيمة فرداً فرداً، غالبية الزملاء يعتقدونني من الحيمة، لفرط تحيمي بهم.
وعبدالرحمن هو الشيخ، وكبير بلاده، وصديقي، وأخي عوضاً عن إخوتي الذين أبعدتني عنهم الحرب.
عبدالرحمن بمثابة جبران أخي، وماجد شقيقه بمثابة حافظ.
لم يمت عبدالرحمن ليلة أمس، بل شعرت وكأني فقدت جبران، وأجدكم لن تصدقوا هذه المبالغة، لكنها نابعة من قلبي.
عشت معه سنوات البكاء والفرح، ببيته، عندي، ببيت والده، ببيت شقيقه ماجد، بكل جبهات وسواحل المخا، بكل زوايا المدينة.
عبدالرحمن الحربي، نهاية رجل شجاع، موت قائد قَبَلِي جمهوري أصيل، حادي قوم، وخسارته خسارة للمعركة الوطنية فهو من الذين يقاتلون لأجل البلاد، لا لأجل مربح، ولا يتاجر هو وكل بلاده بنضالهم، نضالهم خالص، وأخلص الناس هو وأصدق الناس هم، وأقل الناس استحقاقاً هو ومرات كثيرات أتأمل به وأقول: لولا الزمن المزيف والا لكان الحربي عالية كل شيء، ولكنه كمبدأ هو أعلى كل شيء، وما دونه أقل وأخفض.
هيا نبكي..
مثل عبدالرحمن يجب أن نبكيه، قلت لهم ليلة أمس أول وصولي عندهم: ابكوا.. عبدالرحمن يستحق أن نبكيه مدى الوقت.
البكاء خلق لمثله هو، فكل الناس يذهبون ونبقى ولكن أمثال عبدالرحمن يذهبون فنذهب معهم، أجدني ذهبت معه، ومثلي كل الناس.
لماذا فعلتها يا عبدالرحمن؟
نحن سوياً بكل شيء، نحزن ونفرح معاً، نسافر ونقيم، نقاتل ونناضل، نعيش ذات المكان ونؤمن بذات الفكرة، لم تخذلني بشيء وأيم الله لم أخذلك، طريقنا واحد، طريق الحرب والحياة، فلما هذه المرة خذلتني؟
لماذا مت وحدك وغادرت وحدك وذهبت وحدك بصمت؟
سأشكوك ذات يوم، في العرصات، سأمسك بياقتك وأقول لله: لقد تركني ومات.
تركني، خذلني، ثقب قلبي ومات، بهذه سوف أستقد.
يا حشاشة قلبي، ألم نتفق؟
قلنا سننتصر ونعود البلاد وسأعيش ببلادك الحيمة، وستعيش ببلادي مخلاف، وستجمعنا لذة النصر.
لماذا ذهبت ولم نعد البلاد بعد؟! ثمة أشياء لم نفعلها، لماذا؟
تعلمت منك أشياء يا فقيدي، كيف للمرء أن يجازف بكل شيء لأجل معنى ومبدأ، تعلمتها منك.
خطينا بتعبنا جغرافية الساحل، وكنت أنت معركة صامتة، تضحي وتناضل وتفعل كل شيء لصالح المقاومة دون أن تستعرض بتضحيتك.
وأعظم التضحية أن تفعلها وكأنها صدقة، بصمت وسر وبهاء.
عشنا سنوات الجد والجهد.. لا أقارن نفسي بك،
انت مختلف، من أول طلقة في الحيمة إلى كل جبهة بالساحل، ووجدتني أنا مجرد كاتب، أما أنت فمقاتل.
هناك فرق بيني وبينك، أنت بطل فعل، وأنا كلمة وقول.
يا حبيبي..
يا أعماق روحي، ستبقى صورتك الأخيرة عنواني، لن تفارقني سحنتك، ملامحك الأخيرة، وبناتك هن خواتي وبناتي.
يا أبا زينب، رغد وشموخ، هن حشاشة القلب، هن في أحداقنا.
الرحمة لك.. ووعداً وعهداً سننتصر لك ولمبادئك وسنعود الحيمة لنكتب اسمك على كل خافقة وجبل، وسنأخذ حقك من الكهنة، فهذا وعدي وعهدي.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك