أحمد نويهي

أحمد نويهي

تابعنى على

المسافر إلى حيث اللا مدينة

Tuesday 11 April 2023 الساعة 01:33 pm

"أشتي أسافر بلاد ما تعرف إلا الحب العيش فيها وداد والبعد فيها قرب"

هكذا قال المغني يوم ذاعت الأغنية كجواز سفر لا يدري إلى أين. 

يقول: يوم كتب هذه الأغنية كانت الطفرة النفطية في أوجها في دول الخليج العربي وهو القادم من عدن ليستقر في تعز التي يصفها بشغف وحب كبير، يروي قصة اعتقال جهاز الأمن الوطني له بعد انتشار الأغنية بصوت عبدالباسط عبسي. إذ صارت لسان حال الكثير من الناس كهاجس وموال لا يخفت صداه. 

سافر اليمنيون بالملايين منتصف السبعيينات إلى السعودية..

يقول: كنت عائداً من ديوان الشيخ محمد علي عثمان إلى شقة يسكنها في حوض الأشراف ما إن دخل الباب إلا دقائق وإذا بصوت ينادي عليه يا أستاذ، الفندم يشتيك.! 

استغربت من هو الفندم.؟ 

فتحت الباب وإذا بعسكري ببدلته الرسمية يقول الفندم يشتيك ضروري.

حاولت معه عادنا وصلت يا ابني. 

"مابلا الفندم يشتيك.. 

عنردك احنا بالسيارة"

ذهبت معه والظن ان الفندم احد معاريفي وإذا بي ادخل مبنى عرفت فيما بعد انه مقر جهاز الأمن الوطني في تعز. 

استقبلني الفندم بعبارة فيها من الاستهجان الكثير 

"اين تشتي تسافر؟ 

عنوصلك.. الناس ممدين قبال الجوازات ليل نهار."

قضيت ليلتها ضيفاً لدى الفندم الذي عرفت فيما بعد انه "العتمي"، في الصباح طلبت تلفون اعطوني واتصلت بالشيخ عبدالرحمن محمد علي عثمان مدير البنك الذي اتصل بالعتمي وعاتبه:

"الله المستعان يا فندم تعتقل الاستاذ أحمد الجابري.. 

كان يبتسم ويقول "مابه إلا بلاغ كاذب والآن نوصله للبنك". 

يقول: انا ما كنت اشتي اسافر إلى مدينة على الخارطة، المدينة اللي اشتي اسافر اليها ليست لها عنوان لكني المسافر اليها مجازاً. 

لكنه المسافر إلى حيث يكون، إلى حيث يجد ذاته المكنون في الزمن المجنون، الزمن الذي سلب منه الكثير.

 الفقد متتالياته تترك أثرا يدمي الروح ويوجعها وحين يفقد الإنسان مدينته التي صارت بعضه إذا لم تكن كله.

الاقتصادي الجميل والشاعر المرهف.. كتب الشعر وعلم الحساب.. اسس نظما محاسبية وعمل في اكبر الشركات يوم كانت عدن بندر، درس الاقتصاد في عدن ومعه الرعيل الاول للحركة الوطنية.. غنى للوطن وتشيع له، انجز الرباعيات ديوانه والصومعة التي يسكنها. 

 انشد "لمن كل هذي القناديل تضوي لمن" 

يوم عادت عدن غنى للزمن على شغاف القلب استوقف الاطلال، وناغى التاريخ والدمن، من بلاد الشعر كان وفي عدن ولد قبل الشجن، عاش ليعيش في شفاه الورد اغنية رددتها السهول والجبال والوهاد.

 عاش ليكتب القصيدة الحمينية وصدح بصوت المرشدي

"للمه الغنج والتمادي من علمك ارزى امانة قليل"

 غنى للفرح وماد بالحزن لينسحق البؤس تحت انامل ريشته التي رسم بها الكلمة لتصطف العبارة ليتموسق اللحن.

شتت النثر ونظم القافية على يسار البيت انتظم الإيقاع.. إذ يقول: من السهل ان تكتب مطلع القصيدة لكن من الصعب ان تقفلها.

 وهنا بيت الشعر ومذاقه ونكهة المعنى وارتعاش المغنى والمبنى، عاش وما زال يمعني ليدله القصيدة برباعية تربك النص وترتبه.

 احمد الجابري حين تجلس بمعيته تصغي لانهيارات الغيوم ترشف المغاني، تصغي لصوت الغيم والمطر يغني للبعد والقرب معاً.

 فقصيدته لم تغترب ولم يسافر إلا إلى حيث اللا مدينة التي عاش يعمرها ويبنيها كبيت شعر يسكنها وتسكنه.

 تطرب لها القلوب والعقول والحقول. 

ينثر عن الآيسكريم وأول مصنع في مدينة الحديدة التي يقول عنها انها تشبه عدن في طقوسها وبحرها يوم اغلقت عدن بعد قرار التأميم مطلع سبعينيات القرن فقد تشحرج صوته ليؤكد ان الزمن قد توقف لديه، ثم يصمت ليشعل سيجارته الشهية لتمتص شغفه حين يفرغ فيها شبقه اللا متناهي حين استهلكت كل سجائري ليناولني بطريقة تنم عن ذائقة راقية في فن التعامل مع ضيف كان قد هطل دونما ترتيب ليرتل في محراب الصوفي القانت صومعته بعض ما تيسر من كتاب الشعر واللحن الشارد في اللا نهاية.

 مطلع مارس 2015 كنت قد عرجت على الراهدة مدينة التجارة على طريق القوافل الممتدة من المخا وحتى بحرها عدن. 

شادت القافلة مدن ازدهرت في ذلك الزمن لتعود في العصر الذي تلا مدنا على طريق الحرير.

يحكي الشاعر بنكهة الاقتصادي الذي عمل أول عمره كمحاسب قانوني نال درجة الامتياز في كثير من المحطات التي يكتنزها بسيرته اليومية ليشغل كبير المحاسبين ثم المراجعين في اكثر من وظيفة شغلها يتذكر ليسرد بلا انقطاع عن البنك اليمني للانشاء والتعمير فرع تعز وكيف تلقفه الاستاذ عبدالرحمن محمد علي عثمان وقدم له درجة مرموقة في البنك وكيف تعرف في ديوانه الشاهق بين الغيوم على شابين؟ كانا قد احترفا العود والدندنة ليوافق النص اللحن ثم كانت الاغنية:

ضاعت الأيام من عمري سدى ضاعت وحبي ضيعك

ايش معك يا قلب. 

احمد الجابري، الزاهد الناسك في محاريب بلاد وقعت بين بحرين أتقن تنوع اللهجة حين تفرد كطائر الاشجان الذي بعثه يبث اغاريده والاغنيات.