محمد عبدالرحمن
بين الحلم والحقيقة.. "مخاوي" يشاهد طائرة تهبط في المخا
كان متكئاً على الرصيف عند الساحل، يراقب الموج، يحصي مدّه وجزره، يغوص في أعماق ذاته يفتش عن أشياء في الذكريات تعيده إلى شبابه أو صباه، يستأنس بها ويلهو معها لبعض من الوقت، وتارة يعود إلى واقعه وتتراءى أمامه أوضاع البلاد ونتائج حروبها وانعكاساتها على المعيشة والحياة اليومية له وللناس الذين يقطنون هذه البلاد الساحلية والتي احتضنت التاريخ لكثير من الوقت وكانت منارة ومضيافة لكل العابرين من البحر إلى البحر عبر المضيق، ميناؤها قوتها، آنذاك، ومركزها محور المنافسات على كسب ودها، يتنهد "المخاوي" ويصدر عنه صوت تكاد الصخرة التي بجواره سماعه ويقول: إنها المخا.
اعتدل "المخاوي" في جلسته بعد أن شعر أن رجله اليمنى أصبحت منملة "أو نائمة" وأخذ حجرا صغيرا ورمى به البحر بدون وعي، وانهمك أكثر وأكثر في الذات البعيد، حتى تهادى إلى أذنيه صوت من بعيد لم يعتَد على سماعه، ولم يألفه أهل المدينة العتيقة، تلفت يمنة ويسرة، على امتداد اتجاه وجهه، لم يشاهد شيئاً، أعاد تلفته دون جدوى، استمر الصوت بالاقتراب أكثر، حتى أدرك "المخاوي" تمييز اتجاه الصوت القادم من الأعلى، إنه يشبه الطائرة، إنها بالفعل الطائرة، يحدث "المخاوي" نفسه بشيء من الدهشة والفرح معاً.
مشهد هبوط الطائرة بعث في "المخاوي" خيالات عدة، ومشاهد فنتازيا، وأحاديث تدور بين الحلم والحقيقة، يسأل نفسه: هل يعقل أن للمخا مطارا.. كيف ذلك؟ كانت هذه المدينة لا تعرف سوى استراحة السفن في الميناء، ولا تميز من أصوات الانتباه سوى صوت البواخر المحملة بالبضائع، هذه المدينة المنسية اليوم تهبط على أرضها طائرة لم نكن نراها إلا على التلفاز في نشرة التاسعة، كيف حدث هذا الأمر، هل أنا في المخا الآن! يحدث نفسه بسؤال استغراب ودهشة.
سرت في جسده قشعريرة الفخر، وشعر بالانتشاء، إنها مرحلة جديدة، إنه زمن جديد، إنها العودة يا بلادي، استعد أيها الميناء، لقد ولد أخوك المطار، استعدي يا المخا للحياة والانتعاش، استعد أيها التاريخ لتستريح مرة أخرى في هذه المدينة، واستمر يحدث نفسه بفرح كبير وأمل بدا بريقه في لمعة عينيه وهو ينظر إلى الطائرة بعد ساعة من هبوطها تستعد للمغادرة، ثم أخذ حجرا كبيرا ورماه بقوة في البحر وقال: إنها المخا، إنها الحقيقة، إنها الولادة من رحم الحرب إلى ناصية الحياة وبقوة.. ثم غادر تاركاً وراءه أحاديث كثيرة يتناولها البحر مع نفسه في مدّه وجزره.