محمد عبدالرحمن
ابتهالات "الكتابة".. حين يكون الكاتب غارقاً في أوجاعه
ليست الكتابة مجرد وضع القلم في بداية السطر ومن ثم تبدأ الحراثة، وليست حالة يمكن أن تبدأها في اللحظة التي تريد أن تكتب فيها، إنما هي حالة اشتعال ذهني يحتاج إلى أن توقّد له العديد من الأشياء لتتمكن من استجلاب الفكرة وتتابع الأفكار، هي حالة من الغوص في كومة الكلمات والعبارات، قبل أن تتحوط بالمعلومات التي يمكن معها أن تكشف ما وراء تلك الأحداث أو توضيح هواجس المقال الذي يحمل صفة الفكر، وليس الخبري.
مع ظروف الحرب التي دخلت إلى فم الكاتب وجلبت الغزو إلى تفكيره وإلهاءه بظروف الواقع القاسية، تجعله معصوفاً لا يقدر على أن يلملم ذاته ويستجمع تفكيره ويخط بدواته الكلمات وينسج مقالاً جاهزاً للنشر، هي الظروف الصعبة التي تحمل في ثنايها ما يجعل الكتابة أكثر صعوبة وأكثر تعقيداً، فحالة الصفاء الذهني تبدو شبه غائبة أمام الأوضاع المعيشية الصعبة للكاتب، والتي تأخذ تفكيره وتبني همومه والتي تجعله يسعى بكل جهد لأن يحقق ما تيسر له ولعائلته من الخبز الكريم المستعجل والقوت اليومي الضروري.
صعوبة الحياة ودخول الحرب في هذه البلاد منعطفات والتواءات تجعل من عملية التحليل تفقد قدرتها على التنبؤ المقارب للواقع عاجزاً عن تقديم مادة تحليلية متسلسلة، تشتت الفكر وتشريد الذهنية الكتابية، واقع يعاني منه الكاتب وهو يراقب التطورات والتحولات الدراماتيكية للحرب في اليمن، وكيفية التحول الذي يبدو غامضاً لا مؤشرات واضحة على نهاية تلك التحولات وأنى سوف تستقر، لكن تلك التحولات والمتغيرات لا تمثل عائقاً أمام حالة استنهاض الحالة الكتابية واستجلاب الفكرة والبدء في الكتابة، بل إنها تعزز من قدرة الكاتب على أن يستمر في الكتابة بشكل يومي، لكن العائق الكبير هي تلك الأوجاع التي يغرق فيها الكاتب بسبب قسوة الحياة وظروفها.
يعيش الكاتب يومياته الصعبة بحثاً عن الصفاء الذهني ليكتب، فتلطمه الظروف وتغرز في جمجمته الكثير من الهموم التي تسحبه وراءها لاهثاً في البحث عن حلول تسد احتياجاته اليومية والتي يشترك فيها مع عائلته، في هذه اليوميات الصعبة والاحتياجات الضرورية يُصلب أمامها الكاتب بكل جسده ويبقى تركيز تفكيره على أوجاعه ومنابع الدماء التي تسيل من جسده.
الكتابة ليست بالهيّنة، وليست بتلك الصعوبة، فقط من يحدد درجة صعوبتها هي الظروف المحيطة بالكاتب، وهي من تقف وراء قيوده التي تمنعه من استكثار الكتابة حول مختلف الجوانب الحياتية وظروف الحرب ومآلاتها، هي من تجعله يشعر بالعجز وعدم القدرة وكأنه لم يكتب يوماً أو لا يستطيع الكتابة وترتيب العبارات وتنسيق الأفكار وشحنها في قوالب متناسقة تعطي للقارئ الهدف بشكل واضح.
ليس هنا الآن سوى بعض الابتهالات الكتابية التي أرجو أن تُستجاب لي، أكتب عنوان وأرديه حذفاً، وأكتب آخر فأسرع في محوه، أحاول أن أرتب الأفكار وأستجمع قواي، لكن دون جدوى، تقف أمامي كل مشتتات الذهن وتحضر أصوات المطالبة بتسديد الديون وصوت المؤجر، فتخرج ألف تنهيدة تشتت أي صفاء للكتابة، وتذوب كل الابتهالات أمام تلك الحالة، أنظر ولا أجد سوى الحرب ونتائجها وإن كانت حتى هدنة، فهي حرب من نوع أكثر شراسة، كم هي قدرة الإنهاك على الاستمرار في هذا الجسد النحيل وهذا الصوت الغارق في أوجاعه.!