الصليف.. قصة ميناء منذ الاحتلال العثماني حتى الاحتلال البريطاني (4)

المخا تهامة - Wednesday 05 June 2019 الساعة 12:08 am
المخا، نيوزيمن، كتب/ أ.د عبدالودود مقشر

بدأت الصليف تعاود الظهور من جديد، وتحتل مكانة استراتيجية في خارطة ولاية اليمن العثمانية، لكن بداية العلاقة العثمانية مع الصليف اختلفت، فقد ذكر الكابتن بلايفير Playfair أن قوة عثمانية "استطاعت أن تحتل الصليف بهجوم سريع، وذلك في يناير1851م (ربيع أول 1267هـ)، وقد صاحب هذا الهجوم أعمال بلغت الغاية القصوى في القسوة، وتم أخذ مائة وعشرين من الشخصيات الشهيرة من سكان المدينة، وتم نفيهم إلى جزيرة كمران ".

لمتابعة الحلقات السابقة:

الصليف.. قصة ميناء منذ الاحتلال العثماني حتى الاحتلال البريطاني (1)

الصليف.. قصة ميناء منذ الاحتلال العثماني حتى الاحتلال البريطاني (2)

الصليف.. قصة ميناء منذ الاحتلال العثماني حتى الاحتلال البريطاني (3)

لكن العثمانيين سرعان ما أدركوا الأهمية الاقتصادية لمناجم الصليف في بُعدها الجديد، فـ"في سواحل تهامة عدة مناجم أخصها الصليف، وهي عظيمة، ملحها صخري فريد في نقائه وجودته وغزارته، وقد كانت هذه المملحة تستغل في عهد العثمانيين وتدر وارداً قيل إنه كان يبلغ مئتي ألف ذهب عثماني إلى خربتها الدوارع الإنكليزية خلال الحرب العامة (الحرب العالمية الأولى)، وحطمت مبانيها وآلاتها، فلم تعد تقوم لها قائمة"، فمناجم الملح استغله العثمانيون في عهدهم للأغراض التجارية، وكانت مناجم الصليف مستغلة من قبل العثمانيين على نطاق واسع قبل الحرب العالمية الأولى، وذكر مؤرخ معاصر لتلك الفترة، وهو القاضي حسين بن أحمد العرشي في كتابه (بلوغ المرام) أنه: "قد كان الترك في حين كانت الصليف بأيديهم، يستخرجون الملح من مملحتها بمقادير هائلة ويبيعونها في داخل اليمن وخارجه، وأما اليوم –وقد غادرها العثمانيون– فقد أهمل شأنها، وأخذ الأهلون يتزودون منها لطعامهم ما يشاءون بلا حرج ولا مانع".

اهتم العثمانيون بالصليف اهتماماً خاصاً فمدّوا إليها خط السلك البرقي، وهو الخط الرابط بين الحديدة واللحية والمتفرع منه إلى الصليف ليسير من هناك إلى جزيرة كمران، وربطوا الصليف إدارياً بقضاء الحديدة رأساً "فكانت نفس مدينة الحديدة تشكل قضاءً مستقلاً مع الصليف وما جاورها"، لكن وجد في يمن سالنامة 1313هـ أن الصليف مديرية مستقلة وهي "صليف مملحة مديريتي" ولها مدير عثماني هو داود أفندي وباش كاتب، وتعزيزاً لأهمية الصليف عُدّت من المناطق العسكرية البحرية ضمن المنطقة الأولى الممتدة من المخا إلى الصليف وبداية للمنطقة الثانية الممتدة من الصليف إلى الوسم.

فقد اهتمت الدولة العثمانية بالبحث عن موارد تغذي خزينتها العامة، فكانت مناجم الصليف للملح الصخري من أهم هذه الموارد، ودرت عليها مبالغ ضخمة، كما يتضح من خلال لائحة القاضي العثماني محمد خليل أفندي والذي تولى رئاسة محكمة الاستئناف الجزائية باليمن في الثالث من شوال 1296هـ / 19 أغسطس 1879م وقدّم لائحة اعتمد فيها على الوثائق الرسمية لولاية اليمن والسجلات الإحصائية للدولة العثمانية، فذكر أن ممالح اليمن، ويقصد بها مناجم الملح في الصليف تنتج 726,173 كيلو ملح ضريبتها 272,314 قرشاً، وفي سنة 1879م ذكر أن اليمن أنتجت 10,958,442 كيلو جراماً بقيمة إجمالية تتجاوز 6,162,195 قرشاً، وأن مقدار ما تستهلكه اليمن من الملح لا يتجاوز 2,107,467 كيلو جراماً بقيمة مالية تصل إلى 666,462 قرشاً.

خضعت الدولة العثمانية من الناحية المالية لما عرف بالإدارة العمومية للدين العام العثماني Ottoman Public Debt Administration (OPDA) فقد أدى إعلان الدولة العثمانية لإفلاسها في 1292هـ / 1875م وعدم قدرتها على الوفاء بديونها وفوائدها للدول التي أقرضتها تلك الديون إلى دفع الدائنين للمطالبة بحقوقهم وإلزام الدولة بتقديم ضمانات لهم، ونتيجة لضغوط تلك الدول ارتأت الدولة أن تشكل لجنة مالية مؤلفة من ممثلين عن فرنسا، وبريطانيا، والنمسا، والمجر، وإيطاليا، ومن خمسة مندوبين عثمانيين لمناقشة تلك الديون وآلية سدادها، واستطاعت اللجنة في 28 محرم 1299هـ / 8 ديسمبر سنة 1881م أن تتوصل إلى تأسيس هذه الإدارة التي عرفت بلجنة إدارة الدين العام العثماني على أن تكون مستقلة تماماً في جميع ما يسند إليها من مهام من دون أي تدخل من الحكومة، وكان أهم ما أنيط بها من أعمال جمع فائض الإيرادات من مناطق الدولة العثمانية، ومراقبة صحة دفع الفوائد والديون، والعمل على تحسين إدارة الإيرادات الموضوعة تحت تصرفها وبدون حدود وكتابة التقارير عن أوضاع المناطق التي تحت إشرافها، وضعت الدولة لعثمانية جزءاً من مقدراتها الاقتصادية في ولاية اليمن تحت التصرف المطلق لهذه الإدارة ومنها الصليف ومناجمها والتي كان يستثمرها العثمانيون أحسن استثمار وصنف ملحها بين أفضل أنواع الملح في العالم.

وجدت أن الوثائق العثمانية تابعت باهتمام مجريات تطوير مناجم الملح بالصليف وتوسعة مينائها رغم وقوعها تحت الإدارة العامة للدين العام العثماني، ففي الاريشف العثماني وثيقة تحكي عن: "مضبطة من مجلس شورى الدولة:- أنه قد حدث شيء من التقدم في زيادة ملح التصدير من ملاحات صليف في اليمن، وأن ملح التصدير هذا يلقى قبولاً في كلكتا، وإذا وجدت طرق أخرى عدا الطرق المعروفة في تصدير الملح فإنه يمكن زيادة كميات التصدير وإيصالها إلى 15 ألف طن سنوياً، ولكن يجب قبل كل شئ إرسال موظف إلى كلكتا للعثور على متعهد يمكنه شراء الملح لهذه الكميات، ومرفق مع هذا عرض من الصدر الأعظم بالموضوع وعليه إشارة من سر كاتب السلطان بصدور الإرادة السنية بالموافقة، التاريخ 9 سبتمبر 1888م".

تتحدث وثيقة أخرى عن "انخفاض سعر الملح اليمني بسبب التهريب، ورسالة من ناظر المالية محمد ضياء أفندي نصت على أنه نتيجة لانتشار تهريب الملح في أراضي اليمن أصبح من الضروري العمل على القضاء على تلك الظاهرة ويقترح تخفيض أسعار الملح لمدة سنتين ويمكن تخفيض الأسعار على النحو التالي:

م المدن الأسعار الحالية الأسعار المقترحة للتخفيض الملاحظات
1-
مدينة الحديدة
0,435 قرش
0,25 قرش
الملح البحري من 0,435 قرش إلى 0,15 قرش
2-
باجل
0,385 قرش
0,335 قرش

3-
الصليف
0,625 قرش
0,225 قرش

4-
جدة
0,40 قرش

ومع الوثيقة عرض من الصدر الأعظم إلى السلطان بمحتوى الرسالة والموافقة عليها".

ومن خلال الرجوع إلى التقارير التي أصدرتها الإدارة العمومية للدين العام العثماني فقد "بلغت الصادرات من الإنتاج العام للملح في نهاية عام 1906م أكثر من 70,000,000 كيلو جرام، وقد صُدّرت إلى الهند والشرق الاقصى"، ورغم أنه تفشى مرض الجدري بالصليف في خريف عام 1906م وتسبب في وقف كامل للعمل تقريباً، وهرب جميع الموظفين الأوروبيين –وهم بالمئات- مع عائلاتهم في وقت واحد من الصليف، وترك هؤلاء الموظفون الأوروبيون العمال العرب الذين لا حول لهم ولا قوة لمواجهة هذا الوباء الفتاك، ولكن عقب انتهاء هذا الوباء عاد الجميع للعمل"، ويذكر أن الإدارة العامة للدين العثماني العام أعلنت أنها في 1906م صدرت من الصليف ما مجموعه 650,000 طن من الملح.

وذكر تقرير تجاري بريطاني رسمي أن "مناجم الملح في الصليف في اليمن تحتوي على إمدادات لا تنضب، ففي عامي 1908- 1909م بلغت كمية الملح الصخري المستخرج من الصليف 335,923 طنا متريا، بقيمة سعرية بلغت 1.229,000جنيه أسترليني، وثم تم تصدير كميات أخرى تقدر بـ(599,114 طناً) إلى الولاية التركية في بنغازي ومنها صدرت إلى أوروبا".

لقد شيدت الإدارة العامة للدين العثماني العام ميناءً جديداً في الصليف خلال (1892- 1900م) وعملت على توسعته – فيما بعد بزيادة أرصفته وجلبت العديد من أدوات الإنتاج من أجل زيادة الإنتاج من شحنات الملح وخاصة بسبب قرب مصدر الإنتاج، وهي مناجم الملح، من البحر.. وقد اختارت الإدارة العامة للدين العثماني الهند كهدف رئيسي للتصدير من الصليف ومن بومباي وكلكتا إلى جنوب شرق آسيا والهند الصينية أمثال يانجون (عاصمة ميانمار – بورما) وسنغافورة ووصل الملح المصدر من الصليف إلى اليابان واستراليا ووجد إقبالاً منقطع النظير، وغزا أسواقاً بعيدة في العمق الأوروبي وشحنات تصديرية كبيرة مثل دول البلقان، وهكذا وصلت الصليف إلى مصاف الدول الكبرى في تصدير الملح، وبعد أن كان إنتاج ملحها ضيئلاً في سنة 1890م وصل معدل الإنتاج والتصدير فيما بين 1908 – 1909م إلى 100,00 طن، وهو ما شكل 10 % من عائدات تصدير الإدارة العمومية للدين العام العثماني ((OPDA من الملح، ووفقاً للإحصاءات للعام 1910- 1911م فإن حوالي 95٪ من الصادرات من الملح بالصليف ذهب إلى الهند، وتم تصدير الباقي إلى صربيا والجبل الأسود وبلغاريا ورومانيا، ورغم ذلك فقد كانت الصليف تتأثر بالأحداث الداخلية، فقد ذكرت مجلة العمران المصرية أن الإدريسي في ثورته ضد العثمانيين: "استمال القسم الأكبر من بني عبس إليه واشتعلت الثورة في نواحي الزيدية.... وقد توالت الوقعات بين رجال الدولة والثائرين في مدينة الصليف على أن النصر كان بحول الله بجانب الحكومة والمتعاظم الأضرار بالنفوس لهرب الأهالي إلى الدارعة العثمانية الراسية هناك.".

لكن الدولة العثمانية أعلنت عبر الصحف العثمانية عن مناقصات عديدة لتوسعة ميناء الصليف ومناجمها وكذلك أعلنت الإدارة العمومية للدين العام العثماني، ومما حصل عليه الباحث هذا الإعلان والذي نشر عبر الصحيفة الرسمية في ولاية اليمن وهي صحيفة صنعاء وباللغتين: "إعلانات:- إدارة الديون العمومية قد وضعت في موقع المناقصة الأشياء اللازمة لإنشاء ازوشمان والبلوقات المعمولة من برمول في الصليف الكائن في اليمن، ووقع الإعلان من طرف ذوي العلاقة والذين لهم رعية بالاشتراك للمناقصة وأخذ المعلومات بحق شرطنامه والبلان العائد للانشاءات يراجعوا إلى مأمور شعبة إدارة الديون العمومية المركزية بدار السعادة وفي أزمير لمديرية الديون العمومية وفي الاسكندرية للبانق العثماني وفي الحديدة لباشمديرية الديون العمومية التكليفات داخل ظرف مغلق ويودع أو يرسل إلى مدير الديون بعمومية العثمانية في دار السعادة إلى نهاية النهاية 7 كانون ثاني سنة 327 وما عدا الظروف المغلقة المذكورة:
أولاً: تعطى التأمينات إما دراهم ثلاثمائة ليرا أو كفالة البانق العثماني بما يساوي هذا المبلغ.
ثانياً:- يعطى علم وخبر الأهلية موافق لإحكام المادة الخامسة عشر من شرطنامه ونهاية مدة المناقصة وقوع القرار في 19 كانون ثاني سنة 327 والقوميسون المتشكل بهذا الخصوص في إدارة الديون العمومية سيحيل الإنشاءات لكل من الطالبين التي ترى زيادة تأميناته ومنفعته. (جريدة صنعاء، العدد 1187 السنة الثانية والثلاثين). 
وهو ما ينطبق مع الإعلان الذي نشرته الصحف الأوروبية عن حاجة إدارة الدين العام العثماني في استانبول إلى بناء رصيف في الصليف مع إيداع مبلغ 1500 دولار كتأمين.

نشرت المجلة الجغرافية في سنة 1912م صوراً للصليف التقطت بواسطة السير هيو إدوارد بوينتر Hugh E. Poynter Sir(1882 – 1968م) وتشمل كافة المناحي والبنى التحتية التي اكتسبتها الصليف إبان الحكم العثماني وتشمل ميناء الصليف ومكتب اتصالات التلغراف ومنازل الموظفين الأوروبيين بالمناجم مكتب الإدارة العامة للدين العام العثماني ومناجم الملح الصخري أحواض الملح وقطارات التحميل.
(The Geographical Journal, Vol. 40, No. 3 (Sep., 1912), p. 352)