قمع إخواني يكبت الاحتجاجات.. تعز تستغيث لاستعادة حريتها
السياسية - منذ ساعتان و 3 دقائق
مدينة تعز، التي اعتادت أن تخرج في تظاهرات حاشدة، أحيانًا حتى للتنديد بأحداث حدثت بعيدة عنها في العاصمة عدن ومحافظات محررة أخرى، تبدو اليوم صامتة بشكل مريب، وكأنها تتوارى عن أبشع الجرائم والانفلات الأمني الذي يضرب قلبها.
رغم فضاعة ووحشية الجريمة التي ارتكبت بحق مديرة صندوق النظافة والتحسين، أفتهان المشهري، أمام أعين الناس وكاميرات المراقبة، ولكن ما حدث لم يحرك إي انتفاضة شعبية أو احتجاجات كما كان متوقعًا من أهالي المدينة لا تناصر الغريب قبل القريب، وترفض القتل الممنهج واستهداف الأبرياء.
يقول أحد نشطاء تعز الحقوقيين في تعز: ما لفت الانتباه الكثيرون الجمعة أن المدينة ميته تمامًا بعد أن كان صوتها مسموعًا دائمًا، اليوم سكتت منابر المساجد عن التنديد بالجريمة التي استهدفت أفتهان المشهري، وكأن الحادثة لا تعنيهم، ولا صدى للاحتجاج الشعبي على هذا الانتهاك الصارخة الذي يهدد أمن واستقرار تعز".
تساؤلات كثيرة عن حجم النفوذ الأمني والسياسي والديني لحزب الإصلاح الإخواني الذي يسيطر على المدينة ويفرض صمتًا قسريًا على سكانها، ويكبت إرادة التعبير عن الغضب والرفض لما يجري من فوضى وعنف مستشري، فصمت تعز اليوم تحول إلى مؤشر خطير على سيطرة جماعة مسلحة وسياسية على مفاصل المدينة، حيث يختفي أي صوت للمعارضة، ويصبح كل احتجاج محتمل مهددًا بالقمع، مما يضع المدينة على مفترق طرق بين الخضوع للإرهاب المنظم أو الانفجار الشعبي الذي قد يعيد لها صوتها المفقود.
تناقض القاتل
قبل أسابيع شهدت شوارع تعز مسيرات ووقفات احتجاجية للعشرات من المواطنين والنشطاء الحقوقيين والإعلاميين على حد وصفهم للتعبير عن تأييدهم لعمليات النهب والسلب التي تمارسها قيادة محور تعز العسكري من إيرادات الدولة ورفضهم للإجراءات القانونية التي أتخذته قيادة وزارة الدفاع والحكومة اليمنية لإيقاف هذا العبث. ولكن اليوم قرر هؤلاء المواطنين والنشطاء الحقوقيين والإعلاميين إلتزام الصمت المريب أمام أبشع الجرائم والانفلات الأمني، واغتيال أفتهان المشهري، مديرة صندوق النظافة والتحسين، الذي يمثل مؤشر على هشاشة النظام الأمني وانعدام إرادة حقيقية لحماية المدنيين.
>> اغتيال أفتهان المشهري.. فسحة في قلب فساد الإخوان بتعز
الصمت يكشف حجم السيطرة التي يمارسها التنظيم الإخواني على المدينة، إذ تُخضع العقول والقلوب للترهيب، وتُقمع أي محاولة لمحاسبة المتورطين. بينما تُستثمر الطاقة الشعبية في حماية مصالح فئوية ومكتسبات مالية، تُترك دماء الأبرياء، وخصوصًا النساء اللواتي يقدن الإصلاح المؤسسي، فريسة للاغتيالات والتهديدات.
إن هذا التناقض بين الدفاع عن الأموال وغياب الحماية للحياة العامة يعكس صورة المدينة المخنوقة بالقمع السياسي والأمني، حيث تصبح الشوارع والمدارس والمساجد ساحات للسيطرة والإرهاب، بدلاً من أن تكون فضاءً للأمن والمجتمع المدني الفاعل.
الكاتبة سمية الفقية قالت أن تعز اليوم تستغيث، وأن المأساة الحقيقة هي غياب رجال الدولة الحقيقيين. مضيفة: "مأساة تعز تتجدد مع كل طلقة غدر، ومع كل جثة تسقط في الشارع دون أن يتحرك أحد، ولو كان في تعز رجال وقانون، لما اغتيلت أفتِهان المشهري برصاص الفوضى، ولما صارت النساء يُقتلن كما يُقتل الرجال، بل أشد إيلامًا".
وأضافت: تتحمل المسؤولية السلطات المحلية أولًا، تلك التي تكتفي بالمؤتمرات الصحفية بينما الدم يغرق الأرصفة، القيادات العسكرية ثانيًا، التي تترنح بين الولاءات وتترك المدينة مشرّعة الأبواب لعصابات الاغتيالن، الشرعية ثالثًا، الغارقة في صراعاتها ومناصبها". وقالت الفقية: " أي مدينة هذه التي صار القاتل فيها هو الحاكم، والمجرم هو السيد، والمواطن مشروع جثة؟ أي زمن هذا الذي صار فيه دم المرأة أرخص من الرصاصة التي تقتلها؟".
الخوف يسود الشوارع والمساجد
توقّع كثير من أبناء تعز أن تكون خطب الجمعة الأخيرة منصة للتنديد بالجريمة البشعة التي هزّت المدينة، والتي راحت ضحيتها مديرة صندوق النظافة والتحسين أفتهان المشهري، وأن تحثّ الخطباء المصلين على الخروج بمسيرات حاشدة للتعبير عن رفض الجريمة ومطالبة الأجهزة الأمنية بتقديم القتلة ومن يقف وراءهم للعدالة. إلا أن المفاجأة كانت صادمة: تجاهل الخطباء الحديث عن الاغتيال تمامًا، وسط تكهنات أن توجيهات عليا صدرت لهم بعدم إثارة القضية، بهدف امتصاص الغضب الشعبي واحتواء التوتر قبل أن يتحوّل إلى انتفاضة حقيقية في الشوارع والمساجد.
يؤكد الكاتب سعيد بكران أن "سيطرة الإخوان على تعز أفرغت المدينة من صوتها العام وأضعفت إرادتها، حتى بدا وكأنه لا معارضين للهيمنة التنظيمية. ومن يحاول المعارضة، يُواجه بالقمع المعنوي والأمني، وأحيانًا الجسدي، ووصمه التنظيم بالخيانة أو الشذوذ". ورغم توقع البعض أن تهب المدينة بأكملها، وأن تمتلئ ساحاتها وشوارعها بعد اغتيال المشهري، إلا أن السيطرة الأمنية والتنظيمية حالت دون ذلك، لتبقى الغضب الشعبي محاصرًا داخل البيوت والمساجد، ويستمر الخوف في تجميد أي حركة احتجاجية.
>> اغتيال مديرة صندوق النظافة في تعز.. فاجعة تفضح الفوضى الأمنية ورعاية الإرهاب
ويشير بكران إلى أن كسر قبضتهم لن يتحقق إلا عبر خطوات جذرية: تحرير المساجد والمدارس والساحات، فضلاً عن تفكيك شبكة المخبرين والقتلة الذين يتجولون بحرية في أرجاء المدينة، ويزرعون الخوف بين المواطنين، مع ما يرافق ذلك من تدمير النفوذ الذي يستخدمه التنظيم لكبح أي صوت يطالب بالعدالة أو يرفض الفساد والانفلات الأمني.
اليد الحديدية للتنظيم
يُعتبر الغياب شبه التام لأي تحرك شعبي بعد جريمة اغتيال مديرة صندوق النظافة والتحسين، أفتهان المشهري، مؤشراً واضحاً على مدى قبضات تنظيم الإخوان على مدينة تعز، وقدرتهم على التحكم في مفاصلها الأمنية والسياسية والاجتماعية. هذه السيطرة ليست مقتصرة على المؤسسات الرسمية فحسب، بل تشمل المساجد والمدارس والأسواق، حيث يتغلغل التنظيم في حياة المواطنين اليومية ويهيمن على مسارات التعبير الجماعي.
شبكة المخبرين التي ينشرها التنظيم تنتشر في أنحاء المدينة، وتعمل على مراقبة كل نشاط شعبي أو سياسي، ما يكسر إرادة السكان في التعبير ويزرع الخوف في نفوسهم، مانعةً أي محاولة للتظاهر أو الاحتجاج السلمي. كما أن التنظيم لا يكتفي بالقمع المعنوي؛ بل يوظف التهديد المباشر والاعتقالات أحياناً، ويصل أحياناً إلى استخدام العنف الجسدي ضد أي شخص يحاول تحدي قبضته أو فضح فساد قياداته.
مصادر محلية تؤكد أن سيطرة الإخوان تتجاوز السلطة السياسية إلى المجتمع المدني بكامله، فهي تتحكم في الصحافة المحلية، وتحد من حرية الرأي، وتصف كل معارض بالعدو أو "الخائن"، ما يخلق حالة من الرعب شبه الدائم بين الناس. هذه البيئة الأمنية والاجتماعية المكبلة تجعل الغضب الشعبي محاصرًا في البيوت والمساجد، ولا يمكن أن يتحول إلى فعل احتجاجي حقيقي إلا بعد تراجع قوة التنظيم على الأرض.
يؤكد مختصون أن أي انفلات شعبي أو تحرك جماهيري لن يحدث إلا بكسر قبضة التنظيم بالقوة المسلحة، ورفع سيطرته الإرهابية عن المواطنين، وتحرير مشاعرهم وأصواتهم في المساجد والمدارس والشوارع. كما يشددون على أن الخطوة الأولى نحو إعادة الحياة الطبيعية للمدينة تكمن في تحطيم شبكة المخبرين والمراكز المحلية التي يسيطر عليها التنظيم، لتتمكن المدينة من استعادة صوتها المفقود وحق مواطنيها في المشاركة الفعلية في الحياة العامة، بعيداً عن الخوف والتهديدات اليومية.
الصوت الميداني الوحيد للعدالة
وسط صمت معظم شرائح المجتمع وتعليقات التنديد الافتراضية على منصات التواصل الاجتماعي، خرج عمال صندوق النظافة والتحسين في تعز إلى الشوارع، حاملين شعاراتهم ومطالبهم العادلة، مطالبين بالقصاص لمديرتهم الراحلة أفتهان المشهري. هؤلاء العمال، الذين شهدوا عن قرب جهود المشهري في إصلاح الصندوق وتحسين الخدمات، أصبحوا الصوت الميداني الوحيد الذي يعبر عن الغضب الشعبي ويطالب بمحاكمة القتلة، في مواجهة واقع يختبئ فيه معظم المسؤولين خلف بيانات وتصريحات لا تتجاوز الحدود الإعلامية.
احتجاجاتهم المستمرة تُظهر الفرق بين الالتزام الحقيقي بالعدالة وبين التنديد الافتراضي الذي اكتفت به شرائح أخرى من المجتمع، مؤكدة أن الدفاع عن حقوق المواطنين لا يمكن أن يتحقق بالكلمات وحدها، بل يحتاج إلى خطوات فعلية على الأرض لمحاسبة المتورطين وإعادة هيبة المؤسسات العامة.
في مشهد يشبه الساحة المحروقة، يتحمل هؤلاء العمال عبء المواجهة وحدهم، في حين يبقى صدى الغضب الحقيقي حبيس الشاشات والصفحات الإلكترونية، مختبئاً خلف صمت الرئاسي والسياسي المحلي، وتخاذل الحكومة في تنفيذ الإجراءات القانونية اللازمة.
وقد أصدر العمال بياناً شديد اللهجة، يضح حجم الغضب العمالي، وسط مطالبة عاجلة للسلطة المحلية والتنظيمات السياسية والأجهزة الأمنية وحزب الإصلاح الإخواني وقبيلة بني صالح مخلاف بضرورة تعقب وملاحقة وتسليم القتلة لتقديمهم للعدالة لينالوا جزائهم العادل.
وأضاف البيان الصادر الجمعة: "نطالبكم بتسليمهم إلى العدالة في غضون 24 ساعة من الآن، حيث تنتهي المهلة صباح يوم السبت ، ونؤكد على أهمية تطبيق القانون وضمان عدم الإفلات من العقاب. وإن لم يتم تسليم المطلوبين غداً، والتهاون بدماء المديرة أفتهان كما حدث مع ضحايا سابقين، سنقوم بالتصعيد".
هذه التحركات تعكس حجم الغضب الشعبي الميداني تجاه الانفلات الأمني وتغوّل النفوذ السياسي، وتضع الضوء على أن حماية حقوق المواطنين، وحتى حياة الموظفين المدنيين، لا تتحقق إلا من خلال تحركات حقيقية على الأرض، وليس بالكلمات المكررة أو البيانات الإعلامية الفارغة. كما تكشف الفعاليات الميدانية عن التناقض الواضح بين من يفرض قبضته على المدينة ويستغلها في مصالحه الخاصة، وبين من يطالب بالعدالة ويقف في مواجهة هذه السيطرة، في مشهد يعكس الصراع المستمر بين إرادة الشعب المنكسر ونفوذ التنظيمات المسيطرة على تعز.
تخاذل الرئاسي والحكومة
رغم أن تعز عاشت سنوات طويلة من الصراع والتضحيات في مواجهة الانقلاب الحوثي، وما زالت محافظة حيوية تمثل قلب الجمهورية اليمنية المحررة، فإنها اليوم تواجه واقعاً مأساوياً من التخاذل الرسمي. فالمدينة، التي شهدت تضحيات مئات الشهداء والجرحى، ما زالت تحت سيطرة تنظيم يفرض صمتاً قسرياً على سكانها، ويحول دون أي تحرك شعبي جاد ضد الانتهاكات والجرائم التي تتكرر يومياً.
ويشير مراقبون إلى أن مجلس القيادة الرئاسي والحكومة لم يبديا أي استجابة فعلية لما يحدث في تعز، مكتفين بمواقف إعلامية سطحية، فيما تُترك المدينة لسيطرة القوى المحلية المتنفذة، التي تستغل الفراغ الأمني والسياسي لمصالحها.
الكاتب والمحلل السياسي نبيل الصوفي علق على هذا الواقع بقوله: "تخيل مجلس القيادة جالس يناقش تقاسم المناصب، له يومين مجتمع وما طرحت أحداث تعز الكبيرة على طاولته. لا تدري هل تهاجم الإخوان أم تقول هم أنفسهم حانبين بالمدينة يرهقوها وترهقهم. ما فيش حد غيرهم يقول إن تعز بلادنا، وهي أهم مناطق الجمهورية المحررة شمالاً".
ويضيف الصوفي أن صمت السلطة المركزية، سواء من الرئاسي أو الحكومة، يُعد سبباً رئيسياً لاستمرار الانفلات الأمني وفشل أي جهود لحماية المواطنين، ويتيح لقوى محلية نافذة، مثل تنظيم الإخوان، الاستمرار في هيمنتها على المدينة، واستغلالها في صفقات ومصالح خاصة، على حساب حياة السكان وأمنهم.
ويخلص المراقبون إلى أن أي محاولة لإعادة المدينة إلى النظام القانوني واستعادة صوت الشعب لن تكون ممكنة إلا من خلال تحرك جاد ومباشر من أعلى مستويات السلطة، يقف بوجه الانفلات ويحاسب المسؤولين عن التقاعس، ويعيد الحقوق إلى أهل تعز بعد سنوات من التجاهل الرسمي.