بعيداً عن ظاهرتي "قتل القتيل والسير في جنازته" و"دموع التماسيح"، لا بد من التوقف عند ظاهرة التشفي، التي تخفي الغبطة الباطنية لأصحابها بعد كل حادثة إرهابية تتعرض لها عدن أو أية مدينة جنوبية، وهو ما يتكرر دوما عبر العديد من المنابر الإعلامية المرئية والمقروءة التابعة لأطراف فاعلة في "الشرعية".
فما أن تجري محاولة اغتيال أو حادثة تفجير أو اشتباك بين مسلحين أو حتى نزاع على أرضية أو مشكلة عائلية بين زوجين حتى تهلل تلك المنابر مرددةً "ألم نقل لكم إن عدن غير آمنة؟؟".
هذه المعزوفة المقرفة تلاقي بعض الآذان الصاغية من البسطاء الذين يكتفون بتأكيدها لكن دون التساؤل: لماذا هي غير آمنة؟
يقال في العلم الجنائي، إذا عجزت عن اكتشاف الجاني فاسأل عن المستفيد من ارتكاب الجناية، والجناية في حالة عدن هي جريمة مكتملة الأركان، ملامحها مسلسل متواصل من الدم والدموع والموت.
ومن المهم أن نشير إلى أنه لا يمكن فصل العمليات الإرهابية التي تشهدها عدن وغيرها من مدن ومحافظات الجنوب عن الحرب العامة ضد الجنوب وأبنائها، فسياسة التجويع وحرب الخدمات، والمتاجرة بالعملة الأجنبية وسلب رواتب الموظفين والمتقاعدين وحملة الاعتقالات التي تطال معظم ناشطي الثورة الجنوبية في مناطق سيطرة "خاطفي الشرعية" كما تستهدف كل داعمي مطالب استعادة الدولة الجنوبية، وأخيرا العمليات الإرهابية التي تستهدف اغتيال عدن والجنوب، كل هذه ليست سوى مظاهر مختلفة لحرب واحدة ضد الجنوب والجنوبيين هدفها تركيع الشعب الجنوبي وإجباره على التخلي عن مطلبه المشروع المتمثل في حقه في تقرير مستقبله واختيار طريق هذا المستقبل من خلال استعادة دولته الجنوبية بحدود الواحد والعشرين من مايو 1990م.
ومن هنا يمكننا تفسير الإصرار على استبقاء مشاهد الموت في عدن ومدن الجنوب وهي تتصدر المشهد الإعلامي والسياسي والأمني وتتناقلها وكالات الأنباء العالمية.
كل ذلك فقط ليؤكد أن "عدن ليست آمنة"، وأنها لن تكون آمنة إلا إذا تولى من يقف خلف تلك الحرب ومن يؤازرونه السيطرة على سمائها وأرضها وكبس على أنفاس أهلها.
الذين يخيرون عدن بين السيطرة عليها أو الاستمرار في رعاية العمليات الإرهابية التي تستهدفها كما تستهدف كل المدن والمحافظات الجنوبية وأهلها، هؤلاء يعلمون أنهم غير مؤهلين لحماية عدن ولا التصدي للإرهاب الذي يستهدفها، لأنهم لو كانوا مؤهلين لمهمة كهذه كانوا دافعوا عن آلاف الكيلومترات التي تركوها للعدو وولوا الأدبار بحثا عن وطن بديل.
كل هذا لا يعفينا من الإشارة إلى ما كنا قد تعرضنا له في منشور سابق والمتمثل في النقاط التالية:
• إن المخططين والممولين والمنفذين لتلك العمليات الإرهابية في عدن لا يهمهم ما إذا كان الضحايا نساءً أو أطفالاً أو رجالاً أو من المسنيين، ولا ما إذا كانوا من المدنيين أو العسكريين، فالقتل هو الهدف ولا يهم بعد ذلك سن ونوع ووظيفة وجنس الضحايا.
• إن تكرار العمليات الإرهابية في عدن ومناطق أخرى من مدن ومحافظات الجنوب يشير إلى خلل قاتل في المنظومة الأمنية الجنوبية بشقيها الوقائي والاستخباراتي، وهو ما يستدعي إعادة النظر في تأهيل القائمين على هذه الأجهزة مهنياً وسياسياً وأخلاقياً، فالإخلاص للقضية بلا كفاءة لا يكفي والكفاءة غير المصحوبة بالإيمان بعدالة القضية وصيانة أرواح الناس وحقوقهم وكرامتهم الإنسانية لا تساوي شيئاً في ميزان الحرب ضد الجريمة والمجرمين.
• وأخيراً، إن محاربة الجريمة لن تنجح بدون تفعيل جهازي النيابة العامة والقضاء في محافظة عدن على الأقل.
وطالما استعذبت قيادة الدولة المغتربة هذا الوضع المنفلت واستمتعت بمشهد الجريمة وهو يتصدر حياة الناس في عدن، فإنني أدعو رئيس الوزراء ومحافظ عدن وقيادة نادي القضاة الجنوبي بالإسراع في تشكيل محكمة ووكيل نيابة للقضايا المستعجلة أو لقضايا الإرهاب، والبدء بمحاكمة كل المتهمين بهذه القضايا وإنزال بحقهم أقسى العقوبات المنصوص عليها في القانون ليكونوا عبرة لكل من ينخرط في هكذا عمليات تستهدف إزهاق الأرواح وإراقة الدماء من أجل تنفيذ أجندات أعداء الحياة الذين لا تعني لهم حياة الناس شيئا مقارنة مع مصالحهم المادية والسياسية غير المشروعة في الغالب الأعم.
رحم الله الشهداء، وشفى الله الجرحى، واللعنة على القتلة والمجرمين.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك