من المهم والملهم للغاية، أن يقوم فيلسوف وعالم اجتماع عالمي كبير مثل "يورجن هابرماس" بالتراجع عن استلام جائزة ثقافية دولية رفيعة بقيمة "750,000 درهم إماراتي = 204,000 دولار".
يذكّر الأمر بموقف الفيلسوف والأديب الوجودي الفرنسي "جان بول سارتر"، من"جائزة نوبل" التي رفض استلامها؛ لأنها: حسب رواية: "كالطوف الذي يرمى للغريق بعد أن يصل للساحل"، ولأنه حسب رواية مناقضة: "لا يستحق أي شخص أن يُكرّم وهو على قيد الحياة".!
لكن السياسة كانت حاضرة، وهي الأكثر صلة بهذا الرفض. وقد دفعت سارتر لرفض استلام جوائز أخرى، معللا رفضه لها بأن: "التكريمات تجعل من الكاتب مؤسسة" في موقف شهير "يوضح مزاج المثقف الذي يريد أن يكون مستقلا عن السلطة السياسية".
هذا الدافع كان حاضراً بقوة وراء تراجع "هيبرماس" مؤخراً عن استلام جائزة "شخصيةَ العام الثقافية" التي تمنحها "مؤسسة الشيخ زايد للكتاب". علل هذا الرجل -الذي يعتبر من أهم علماء الاجتماع والسياسة المعاصرين- هذا التراجع بالقول:
"لم أوضح لنفسي بشكل كاف الصلة الوثيقة جداً بين المؤسسة، التي تمنح هذه الجوائز في أبو ظبي، بالنظام السياسي الكائن هناك".
بمعنى أنه كان سيقبلها لو كانت ممنوحة من مؤسسة مستقلة عن السلطة ولا علاقة لها بالسياسة، وبطبيعة الحال كان الرفض سيتم ربما منذ البداية لو كانت الجائزة ممنوحة باسم الرئيس مرسي أو المرشد الخامنائي.
بعبارة أخرى. السبب عام. لا خاص، وعلى عكس ما فهمه أو أراد أن يفهمه أنصار أنظمة وتنظيمات شمولية في المنطقة. لا علاقة للأمر بخصوصية سياسية سلبية للنظام الإماراتي.. بقدر ما يتعلق بالسبب العام الذي علل به بعض الكبار أمثاله جوائز رفيعة مماثلة، نوبل وغيرها. تلافياً للإشكالية العويصة المعقدة بين الثقافة والسياسة، والمثقف والسلطة.!
لكن هذا لا يعني أن النظام السياسي في الإمارات لا يشكو من أزمة بنيوية. وعلى العكس هذه الأزمة حاصلة في الإمارات وغيرها من دول الخليج، كما هي ظاهرة عامة على امتداد العالم العربي والإسلامي.
لكن. من المهم. فيما يتعلق بـ"دول الخليج" التي كانت تقليدياً، وبدرجات متفاوتة، قلاعاً للرجعية، وتدعم التخلف والتزمت وربما الإرهاب.. أن هذه الدول بدأت بالانفتاح والتحديث والتنوير، ودعم العلم والأدب والفن والفكر والفلسفة على المستوى المحلى والعربي والعالمي.
خلال الأعوام القليلة الماضية فقط، دشن ولي العهد السعودي الشاب "محمد بن سلمان" في بلاده مرحلة تقدمية مختلفة طموحة، قائمة على كبح السلطة والفكر الوهابي، وإلغاء الهيئة الدينية، وتنمية المجتمع والمرأة، وتكريس النظام المدني، والإعلان بصرامة عن توجهات جادة منفتحة على العالم والعصر الحديث.
كذلك. في الإمارات. وبغض النظر عن الطفرة التنموية الهائلة التي شهدتها خلال العقود الماضية: تدشين مؤسسة ثقافية عالمية مثل مؤسسة "الشيخ زايد للكتاب" معنية بالتحديث والتنوير ومتابعة الشأن الثقافي، ودعم الفكر المعاصر والثقافة الحديثة على مستوى العالم.. أمر يثير الإعجاب والطموح.
فوز مفكر عالمي نوعي عملاق مثل "هابرماس" بمثل هذه الجائزة الخليجية، يؤكد على أن النظرة النمطية لهذه الدول باعتبارها قبائل بدوية.. خاطئة وساذجة، أو على الأقل لم تعد منطقية.!
بل على النقيض. هذه الدول -مقارنة بما كانت عليه، وبما آلت إليه الدول والأنظمة التي كانت ثورية تقدمية في المنطقة- باتت في طليعة الركب التقدمي للوطن العربي.
في كل حال. بدأت مسيرة التحديث هناك.. وما زال أمام دول الخليج الكثير لتفعله على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية.. بعيدا عن الدعاية والاستعراضات.. لتتجنب مثل هذه الإهانة الهابرماسية.