كُسر اليمنيون في دفاعهم عن الحلم الذي تحقق قبل أكثر من نصف قرن عندما سقطت الإمامة وأعلنت الجمهورية كنظام حكم لا سائد فيه إلا قانون يحمي الجميع، ورغم الانتكاسات التي رافقت الجمهورية طيلة السنوات الماضية إلا أنها كانت الشعلة التي تُنير طريق اليمنيين في مشوارهم نحو دولة القانون، مدركين أن الأيام والأحداث كفيلة بسد الفجوات وإصلاح الاعوجاج في الطريق الجمهوري.
تعود الإمامة بنفس الثوب الديني الذي أهلك اليمنيين وأذاقهم الويل، ويعتلي الحوثي رأس هذا الثوب ويسقط به الدولة والجمهورية، وتدخل البلاد في حرب مُفزعة أفضت إلى حروب موجعة، كل حرب لها طريقها الذي انطلقت منه لتحقيق هدفها، وأصبحت الحرب الرئيسية التي فرصت نفسها على اليمنيين في الدفاع عن الجمهورية وإعادة بناء الدولة إلى حروب كثيرة وأهداف متعددة وأطراف دولية وإقليمية تبحث عن مصالحها.
صنعاء الإمامية والمطرزة بحاملات صور عبدالملك الحوثي، تعيش وضعها الخاص المحتدم مع القبضة البوليسية لميليشيات الحوثي المتطرفة، لا تنطق بصوتها الحقيقي المتحشرج، ولا تغني لحن التنوع المسروق، إن كان هناك من صوت فهو صرخة الحوثي، ولحن الإمامة المفضي إلى الإخضاع الجمعي للناس بالقوة المادية والمعنوية.
في بداية الحرب كانت صنعاء ترقص على إيقاعات جمهورية وتتغنى بالحلم الموؤود، في الوقت الذي كان الحوثي يغزو الحارات والشوارع والعقول ويحشوها بالناعمات المُسكنات من الكلمات التطمينية، وكان الناس يقاومون صولاته وجولاته بحلمهم الجمهوري، وأن بقاءه مجرد وقت لن يطول، وكان النشيد الوطني في المناسبات والاحتفالات أكبر مقاومة معنوية في مواجهة الحوثي.
لكن الحلم انكسر وتبددت آمال الناس بعد استشهاد علي عبدالله صالح ورفيقه عارف الزوكا، عقب انتفاضة الثاني من ديسمبر، التي كانت بمثابة الثورة المجددة للحلم، فأسرع الحوثي بمخالبه ينهش في الفكر الجمهوري ويجندل بالحلم الكبير في العقلية المجتمعية، ويعزز من قدرته على كسب الرهان في تشتيت الناس وخلق حروب جديدة تلهيهم عن حربهم الرئيسية ضده.
خلق الحروب مهمة سهلة عند الحوثي، فقبضته الأمنية والرقابية على الناس زجت بالآلاف في السجون واختفى المئات من الوجود، فبدأ الناس يبحثون عن مقاومة لمواجهة هذه الحرب بالصمت والانكفاء على الذات والسكوت المرتهن للخوف من بطش السجان، ولم يكتف بذلك وحسب، بل وذهب إلى إشعال الفتنة المذهبية والمناطقية بين الناس لحرف بوصلة تفكيرهم عن الحلم الكبير الذي بدأ في الاضمحلال البطيء.
المجاعات والأمراض والأوبئة حروب يغذيها الحوثي لتستمر في النهش والتغلغل في الجسد اليمني، ليبقى مُعتلّا لا يقوى على المقاومة والبناء الذاتي للحياة الشخصية أو العامة التي تفضي إلى توجيه بوصلة الحرب ضده وتحقيق حالة من انكشاف الغُمة على الأمة، ينشغل الناس بأمورهم الحياتية الضرورية، وتغيب عن تفكيرهم أسباب هذه الحروب المفروضة عليهم قسراً.
يخوض الناس في كل البلاد حروبا صعبة، على المستوى المعيشي والصحي والاجتماعي، لم تعد حالة الحرب من أجل الجمهورية أولوية في العقلية والتفكير المجتمعي، لأن الحوثي وبمساندة الإخوان، تمكن من إجبار الناس على حروب تتعلق بحياتهم لا بحلمهم، حروب من أجل الأكل والشرب والدواء، صنعاء تأكلها هذه الحروب من الداخل، تسرق الكمامات الأمنية صوت نحيبها، بينما عدن بصوتها الثقيل بالأموات والأمراض والأوبئة وقد خذلها الجميع تستغيث بربها.
الجوع الذي يفتك باليمنيين، غيّب عنهم حرب الجمهورية، وأصبحوا يخوضون كل يوم معارك الحصول على لقمة الخبز، ينتصر الحوثي بهذه الحروب والمعارك ويستمر بها ويستقوي بها وبفساد الشرعية التي كسرت اليمنيين في حربهم عن حلمهم وبلادهم، وخذلت الناس في حروبهم المعيشية، لتنعم قياداتها بمعيشة باذخة في فنادق العالم.