نعم، ما أسهل الظلم، وما أصعَب العدل، وما أسهلَ الشرَّ، وما أصعَب الخير. هكذا تقول قوانين الحياة، ولهذا فمن يعمل الخير يُثَب عليه، ومن يعملِ الشرَّ يُثَب عليه أيضًا.
وتكاد الحياة أن تكون دارَ ثواب وعقاب، ثواب لمن أحسن وعقاب لمن أساء.
ولو قد علم الإنسان من خلال تجربته اليومية مصداقية هذا القانون العادل لما خرج عن الدائرة التي يفرضها العدل وتقتضيها طبيعة الإنسان السوي.
ولم يحدث أن نجا الخارج عن هذا القانون، وإذا نجا فإلى حين.
إن عمل الخير وما يتبعه من شعور نفسي بالراحة والطمأنينة يمكن اعتباره الجزاء العاجل.
وإذا كان الشيخ الإمام "محمد عبده" قد قال بمرارةٍ إنه عندما ذهب إلى فرنسا وجد الإسلام ولم يجد المسلمين، فقد لفت انتباهه ذلك التعامل الأخلاقي الذي يقوم على المصلحة المتبادلة، تلك التي تحولت عند البعض إلى قواعد أخلاقية يسير عليها الناس في تعاملهم.
وما كان أحوَجَنا –كما قال الشيخ- إلى الأخذ بهذا النهج الذي يضمن للحياة أن تسير على طريقٍ وحيد لا لَفَّ فيه ولا دوران.
وهذه الإشارات تذكرنا بعبارة حكيمة اختصرت كل معاني الإسلام في كلمتين فقط هما "الدينُ المعاملة".
ومن سوء حظنا أننا تجاهلنا هذا المبدأ واعتمدنا على قشور المعاني ذات التعابير المهلهلة والمتناقضة، وهو ما كان الشيخ محمد عبده قد استوعبه وأنكر على غالبية المسلمين أن يأخذوا القشور ويتركوا صميم المعاني.
وقد مضى على هذه الإشارات ما يقرب من مئة عام وما تزال حية وقادرة على أن تشد الانتباه وتعيد القيم إلى صداره الحياة بعد أن فسدت وأفسدت.
ونحن عندما نعود إلى تلك الإشارات ونعطيها ما تستحق من الاهتمام، فإننا لا ننشر اليأس أو نأخذ بالمعنى الجامد والمتحجر القائل: "ليس بالإمكان أبدع مما كان!".
وهذا التعبير الأخير جدير بأن نتناوله في موضوع مستقل، فهو من التعابير التي سيطرت على الوعي العربي، ودمرت نشاطه الفكري، وجعلته يتمسك بما لا قيمة له ولا وزن في معايير الحياة.
إن شعوبًا كثيرة تغيرت وتحولت من حال إلى حال بوجود الرغبة الذاتية والحنين إلى التغيير.
ولا نريد هنا أن نقدم دليلاً على ذلك، فما أكثر الأدلة من شعوب قريبة إلينا أو بعيدة عنا.
ومصير الشعوب يختلف عن مصير الأفراد، فالشعوب قوة زاحفة، وإذا بدأت الاتجاه نحو التغيير فإنها لا تتوقف، على العكس من ذلك الأفراد الذين يتحركون في دوائر مغلقة وذاتية.
إن البشر هم البشر، سواء ولدوا في القاهرة أو في باريس، في لندن أو في برلين، لكن الظروف هي التي تتحكم في رغباتهم، ولا تجعل على طريقهم بابًا مفتوحًا أو نافذة تشير إلى حيث ينبغي أن يكون التغيير.
وسيكون علينا من الآن أن نتأمل ونطيل التفكير في كل ما قالته طلائع النهضة العربية والإسلامية في بداية القرن العشرين، وكيف أنهم كانوا على دراية تامة بكل ما يعوّق حركة الشعوب ويدفعها إلى الانطواء والجمود.
ولم يكن الشيخ محمد عبده الوحيد بين أعلام الفكر النهضوي، بل كان واحدًا من عشرات المستنيرين الذي هالهم الفارق الفاجع بين الحياة في الأقطار العربية والإسلامية، والحياة في العالم المتحضر والمتغير.
ويمكن لنا أن نعود في أكثر من موضوع إلى مثل تلك الإشارات ونتعرف على مدى الحزن الذي كان يستأثر بهؤلاء الأعلام وهم يدرسون الفارق ويحلمون بسرعة التغيير.
لقد حدث بعض التغيير، لكنه لم يكن كافياً.
لذلك فقد عاد الواقع إلى سيرته الجامدة غير حافل بتلك الكلمات الكبيرة والعميقة التي ترددت على ألسنة ذلك النفر العظيم من مفكري عصر النهضة.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك