عصام السفياني
أيام سوداء في الذاكرة... أبو حرب في معبر الدحي
قبل طرد الحوثة من مناطق الدحي وبير باشا والضباب وركلهم إلى ما بعد الربيعي وخلف جبل هان، كانت تعز تعيش حصاراً وتوحشاً حوثياً مرعباً، والجرائم التي ارتكبها الحوثة في معبر الدحي، كمثال، لا يمكن أن نجد لها مثيلاً حتى في فلسطين وعلى المعابر التي يديرها جيش الاحتلال.. وللعلم معبر الدحي يقع في شارع غزة.
ذهبت ذات نهار إلى بير باشا لأشتري عشبة القات، لأن الحوثي حاصر مربعات "الدواعش"، كما يحلو له أن يسميها، حتى من دخول القات.. وكنا نحصل على القات في المدينة بصعوبة في حال نجحت عمليات تهريبه أو دفع مبالغ باهظة لقيادات حوثية لتمريره من منافذ في جهة الشمال والشرق.
الحصار لا يشمل القات وحده، بل كل السلع، ومن يرِد أن يشتري ما يلزمة فعليه الذهاب إلى بير باشا، كان نصف قالب الثلج في بيرباشا ب 500 ريال وفي المدينة ب 3 آلاف ريال، وقياساً عليه يمكن ربط قيمة كثير من السلع حينها.
كانت تلك رحلتي الأولى إلى سوق القات في بيرباشا حيث أخذت ما يكفيني وخرجت من السوق عائداً ومستعجلاً أيضاً على التخزينة، غير أن الحوثي كان له رأي آخر... عليك أن تظهر بطاقتك الشخصية للعسكري الحوثي الذي يسمح لك بالصعود إلى الحافلة التي ستنقلك من قرب بوابة جامعة تعز إلى منفذ الدحي الفاصل بين المقاومة والحوثي.. ومجرد أن أمسك بطاقتي العسكري الحوثي قال بصوت مرتفع.. من جبل حبشي.. خليك هناك على جمب وأرشدني إلى ظل عمارة أجلس حتى يسمح لي بالمرور.. وكان معي 4 شباب يعملون في شركات تجارية أوقفهم أيضا، هكذا وبكل بجاحة بينما يسمح للبقية بالعبور.
انتظرنا من الواحدة ظهراً إلى الثالثة عصراً، حينها جاء شخص بلباس مدني ومعه طفالان مرافقان له يبدو أنهم أولاده، سألنا: ليش منتظرين؟ قلنا له العسكري لم يسمح لنا بالعبور.. قال تعالوا، وذهبنا سوياً للعسكري وقال له معاهم بطائق ليش توقفهم وقلب صورته على العسكري الذي يلبس زي الحرس الخاص واسمه العنسي، وسمح لنا بالمرور ليظهر لنا ذاك الحوثي القادم من صعدة أنه أكثر شهامة وأنه محترم و... و... وتلك تكتيكات حوثية معروفة.
وصلنا إلى المعبر، وحين جاء دوري اقتربت من عسكري المعبر الأخير الذي اسمه الدحي أو معبر الموت، وكان العسكري أحد الطفلين المرافقين لصاحب صعدة الذي فعل نفسه محترم واسم العسكري الطفل أبو حرب.. أنا في يدي فقط القات.. سألني: ايش معاك؟ قلت له قات.. أخذ القات من يدي ونظر إليه وقال لي هذا الطفل بتهكم.. حبتين جمم.. والله الطواعش مريشين يخزنوا خيرات.. قلت له أنا أخزن نهار وليل يعني كل حبه لوقت.. نظر إليّ ومد يده إلى وسط القات وأخذ بيده نصف القات ورماه على الأرض بكل عنجهية وقال لي: حبه تكفيك.. والتفت إلى قائد النقطة وقال له أو كيف تشوف يا محمد الشامي.. الشامي رد عليه: بعدك يا أبو حرب.
وحين تجاوزت المعبر بحوالى عشرين مترا مع أناس كثيرين ونساء وأطفال يمرون من المعبر تجاه قلب المدينة.. سمعت طلقة قناصة وللعلم اكسبتنا الحرب خبرة حتى في تحديد نوعية السلاح من خلال صوت السلاح.. رأيت الناس يهربون من المكان تجاه نقطة المقاومة والنساء يصرخن في المكان والتفت إلى الجهة اليمنى لأرى مشهداً لن أنساه إلى حين أغادر هذه الدنيا وسيبقى ماركة حوثية لاتبلى.. رأيت طفلاً عمره لا يتجاوز 16 عاماً على الأرض غارقاً بدمائه وفي يده قطعة ثلج كبيرة.. القناص استهدف الطفل وبكل وحشية ودون سبب. واتضح لاحقاً أن الطفل كان يأتي بالثلج ليبيعه في المدينة ويحصل على ربح يعتاش منه.
هذا التوحش الحوثي أنموذج فقط من آلاف القصص التي حصلت في تعز طيلة سنين الحرب ومازالت حتى اليوم تحصل وستبقى نرويها للأجيال ليعرفوا أي عدو جبان ومتوحش وهمجي قاومته تعز ودفعت كلفة باهظة لمنع تغوله داخل المدينة والسيطرة عليها رغم أن المقاومة بدأت والحوثي في جولة وادي القاضي والعقبة والأمن السياسي والمناخ والمرور و26 وكانت مساحة مسرح تحرك المقاومة أقل من 5 كلم من أمام شركة النفط بشارع جمال إلى الروضة والتحرير الأسفل ومربع باب موسى العواضي وصولاً إلى تقاطع المركزي.
أنت لست معه إذاً فالحوثي هو من يحدد حتى كمية القات التي أمضغها وأعيش بدون ماء بارد أو ثلج وبدون غاز وإذا أردت أنت "الداعشي" أن تشتري احتياجاتك فعليك أن ترسل أمك أو زوجتك إلى بيرباشا وإلا تعرضت للتنكيل وربما القنص والموت بدم بارد.. إنها فصول موجعة من أيام سوداء عشناها في تعز حيث كنت في المدينة منذ وصول طلائع أولى الجحافل الحوثية إلى المدينة.
كان الحوثي يتعمد إهانة أبناء الحالمة بأن يرسلوا نساءهم إلى السوق، وهذا التصرف لا يمكن أن يصدر من جماعة أو قيادة في دمها ولو ذرة من قيم اليمني وأعرافهم وتقاليدهم.. إنهم جماعة أتت من خارج تكوين جينات اليمنيين، ولا عنصرية في هكذا قول فهم بذرة عنصرية تنشط حارج سياق الإنسانية والعقل والمنطق.
بعد تحرير الدحي وبيرباشا اندفع شباب المقاومة تحت ضغط الجرائم الوحشية التي حصلت في المنفذ، وهي كثيرة، ونفذوا عمليات سحل لعناصر المليشيات، وحينها قامت القيامة.. ولسنا هنا بصدد تشريع عمليات السحل، لكن دم بائع الثلج الذي سال على الطريق ورأسه التي تهشما لم يحرك أحداً حينها..
بالأمس كان الحوثي يهاجم جبل هان ويحاول قطع طريق الضباب، بينما رفاق السلاح والكفاح ضد الحوثي قد غادرت جرائم الحوثي في الدحي وغيرها من المعابر ذاكرتهم وذهبوا بعيداً في وليمة صراع على جغرافيا تعز التي مازال فيها الحوثي يهدد خط الضباب ومازال المسافر يقضي 6 ساعات ليصل من الحوبان إلى شارع جمال، بينما كنا نحتاج 10 دقائق فقط لنصل من شارع جمال إلى حديقة الحوبان.
موجع أن تدفع تعز كل هذا الثمن وتباع كل التضحيات وتذهب مع الريح.. اليوم قُتلت طفلة كانت عائدة من المدرسة في قلب تعز برصاصة، لكن هذه الرصاصة لم تكن من قناص حوثي وإنما من اشتباك بين عناصر محسوبة على الجيش الوطني الذي يواجه الحوثي.