تقترب قوات المقاومة اليمنية ووحدات عسكرية معارضة للانقلاب الحوثي من تحرير ميناء الحديدة.
بدأ "انصار الله" يلملمون اغراضهم الخاصة وما تستطيع يدهم الوصول اليه من مغانم تمهيدا للخروج من المدينة والميناء ذي الاهمّية الاستراتيجية الكبيرة.
اكثر من ذلك، هناك قيادات حوثية فرّت من الحديدة. يشير ذلك الى ان الضغط العسكري على المدينة صار كبيرا.
يبدو انّه ضغط جدّي من قوات تمتلك قيادات تعرف المنطقة جيدا وتمتلك ما يكفي من الشجاعة للذهاب الى النهاية في استعادتها من مجموعة ارادت العودة باليمن الى ما هو أسوأ من عهد الامامة.
في الإمكان القول اليوم ان ميناء الحديدة المطل على البحر الأحمر ومعه المدينة صارا محاصرين.
هذه خطوة مهمة على طريق القضاء نهائيا على المشروع الايراني في اليمن الذي انطلق مجددا مع بدء تمدد "انصار الله" خارج صعدة ووصولهم الى عمران ثم الى صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014.
اعتقد الحوثيون الذين تابعوا مسيرتهم في اتجاه تعز، التي ما زالوا يسيطرون على قسم منها، ان ليس هناك من يستطيع الوقوف في وجههم.
لذلك وجدوا في عدن لقمة سائغة، كذلك ميناء المخا الذي يتحكم بباب المندب. لم يتوقعوا حصول "عاصفة الحزم" التي اطلقها في آذار – مارس من العام 2015 التحالف العربي الذي في أساسه نواة صلبة تضمّ المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة.
لم يتوقع الحوثيون ان يوجد من يتصدّى لهم في عدن ويخرجهم منها وان يخرجهم لاحقا من المخّا.
ترافق ذلك مع طرد "القاعدة" من المكلا في حضرموت ومن محافظة شبوة. هناك إرهاب "القاعدة" وهناك إرهاب الحوثيين الذي كشف عن وجهه بشكل واضح لدى اغتيال علي عبدالله صالح في الرابع من كانون الاوّل – ديسمبر الماضي.
يشكل الارهابان الحوثي و"القاعدي" وجهين لعملة واحدة تستخدم الدين وسيلة لتبرير الجرائم التي ترتكب في حق اليمن منذ العام 2011 عندما بدأ تحرّك شعبي من اجل اسقاط نظام علي عبدالله صالح.
كان هذا التحرك محقّا في بعض ما طالب به، خصوصا ان السنوات الأخيرة من عهد علي عبدالله صالح شهدت تجاوزات على صعيد ممارسة السلطة لم يكن هناك ما يبررها. لكنّ هذه التجاوزات لم تكن تستأهل تحرّكا من النوع الذي عرف الاخوان المسلمون، مع قسم من الجيش كان محسوبا عليهم، استغلاله معتقدين ان السلطة صارت في متناول اليد بالنسبة اليهم.
في مرحلة معيّنة، تبيّن ان الحوثيين هم المستفيد الاوّل من كلّ ما شهده اليمن من احداث في مرحلة ما بعد 2011.
صار في اليمن وضع جديد كان لابدّ من التصدي له عربيا وخليجيا بعد تقدّم المشروع الايراني خطوات كبيرة الى امام في ظلّ غياب واضح لـ"الشرعية" ممثلة بالرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي الذي خلف علي عبدالله صالح في شباط – فبراير 2012. انحصر همّ الرئيس الانتقالي في محاصرة سلفه بدل استيعاب ان الحوثيين ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض على العاصمة والبلد كلّه وتمكين ايران من القول انّها صارت تسيطر على اربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت... وصنعاء، فضلا عن باب المندب.
لعلّ افضل تعبير عن هذا الغياب لـ"الشرعية" العجز عن استيعاب ان اليمن لم يعد اليمن منذ اليوم الذي انهار فيه المركز ممثلا بصنعاء.
بكلام أوضح، انهار اليمن الذي عرفناه، يمن ما بعد الوحدة في العام 1990، عندما بدأ القتال في شوارع صنعاء وبلغ حي الحصبة حيث كان منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر زعيم قبيلة حاشد الذي كان حتّى وفاته أواخر العام 2007 شريكا في السلطة، بل احد رموزها في ظلّ معادلة "الشيخ والرئيس".
الاهمّ من ذلك كلّه ان "الشرعية" لم تفهم ابعاد المعركة الدائرة في اليمن وان مدينة عدن ليست ميناء ومطارا فحسب، بل هي جزء من منظومة دفاعية عن امن الخليج كلّه. تمتد هذه المنظومة من سقطرى الى المكلا الى ما يتجاوز الحديدة، مرورا بطبيعة الحال بميناء المخا.
تشمل هذه المنظومة الموانئ الصومالية والاريترية وجيبوتي أيضا. ما على المحكّ في اليمن يتجاوز الأراضي اليمنية، خصوصا ان لدى اليمن ساحلا يمتد من بحر العرب الى البحر الأحمر يتجاوز طوله 1900 كيلومتر.
ليست خطوة محاصرة الحديدة تمهيدا لاستعادتها من الحوثيين مجرد خطوة على طريق لاستعادة اليمن كله.
انّها مناسبة لطرح تساؤلات في شأن الأسباب التي تحول دون القيام بجهد جدّي في مناطق أخرى من اليمن.
فقد كانت الطريق الى صنعاء مفتوحة على جبهة نهم عندما استنفر الحوثيون قواتهم لمواجهة علي عبدالله صالح ومحاصرته تمهيدا لاغتياله.
كان ذلك قبل ستة اشهر. لماذا لم يحصل وقتذاك أي تحرّك من ايّ نوع؟
تطرح هذه التساؤلات بشكل جدّي ضرورة إعادة تشكيل "الشرعية" والاستعانة بالقوى القادرة فعلا على تحقيق انتصارات على الأرض.
هذه القوى تمتلك قضية حقيقية. الدليل على ذلك، ان العميد طارق محمد عبدالله صالح يقاتل على جبهة الحديدة، على الرغم من انّ لديه ابنا وشقيقا، هما عفّاش ومحمّد محمّد عبدالله صالح، يحتجزهما الحوثيون في صنعاء.
هؤلاء يحتجزون ايضا اثنين من أبناء علي عبدالله صالح هما صلاح ومدين وعددا كبيرا من اقاربه.
يبقى ان ما تحقق على الأرض، خصوصا في الحديدة، لا يستدعي إعادة النظر في "الشرعية" وتركيبتها فحسب، بل ثمة حاجة أيضا الى المباشرة في اعداد مشروع صيغة لليمن في مرحلة ما بعد استعادة صنعاء.
هذا سيحدث عاجلا ام آجلا. ما لن يحدث، بل يستحيل ان يحدث، هو العودة الى اليمن الواحد الذي انتهى في اليوم الذي خرج فيه علي عبدالله صالح من السلطة.
كان علي عبدالله صالح اول رئيس لليمن الموحد وآخر رئيس له.
يعني هذا الكلام ان على اليمن الذي دخل مرحلة الصوملة الخروج منها في اسرع وقت من دون وهم البحث في العودة الى صيغة الكيان او الكيانين. ليس افضل من البحث من الآن عن كيفية إعادة الحياة الطبيعية الى المناطق التي خرج منها الحوثيون.
قد يكون مفيدا خلق منطقة نموذجية يتوفر فيها الامن والكهرباء والماء والرعاية الصحية والمواد الغذائية تمهيدا لتعميمها على اليمن كلّه حيث لا أحد يستطيع الغاء احد.
لا احد يستطيع، حتّى، الغاء الحوثيين مثلا متى عادوا الى حجمهم الطبيعي والى مناطقهم الاصلية في صعدة بعيدا عن الاوهام التي زرعتها ايران وادواتها في عقولهم المريضة.
في غياب الخيارات الأخرى، غير خيار المنطقة النموذجية، التي يفترض في قوى التحالف العربي والقوى الدولية، التفكير في مكان مناسب لها، يستحسن التفكير في انّ اليمن مرتبط جغرافيا واجتماعيا بالجزيرة العربية وان امنه من امنها ولا يمكن التعاطي معه وكأنّه الصومال الذي تفكك في اليوم الذي خرج فيه محمد سياد بري من السلطة في 1991 ولم يعد يجد مكانا له كدولة واحدة او اكثر من دولة على خريطة القرن الافريقي.
* كاتب وسياسي لبناني مقيم في لندن