محمد اليونسي

محمد اليونسي

تابعنى على

الوطن المؤجل.

منذ 4 ساعات

لي 25 سنة في الغربة، وقبلها والدي – رحمه الله – قضى 38 عامًا بعيدًا عن وطنه، وغريبًا عني أيضًا. 

رحل وهو يتمنى أمرًا بسيطًا جدًا: أن أكون بجواره، أن أحضنه، أن أراه بلا شاشة، أن أستمع إليه دون مسافة، وأن أدفئ يده بيدي… تلك اليد التي كانت تمد لي في الطفولة، فصارت بعدها جامدة بسبب جلطة حقيرة أصابتها، كعقاب إضافي لقلب ظل ينبض بالحنين المكسور، ووجه بشوش يبتسم رغم الألم.

وأخي الأصغر، الذي هرب من وجع غربة إلى غربة أشد، غربة كادت أن تقضي عليه في نهر متجمد بين بيلاروسيا وبولندا. 

أخي الذي غامر بحياته عابرًا حدودًا مغلقة، يركض في الظلام تحت ثلج يلدغ الجسد كسكاكين، وحرس حدود لا يملكون ذرة رحمة، يبحث عن حياة أقل قسوة، فوجد الموت يترصده في كل خطوة.

كاد النهر أن يبتلعه، أن يسحبه إلى أعماقه الباردة ،يغرق في جليدٍ لا يذيب حتى الدموع، بلا صوت، بلا أثر، بلا شاهد يروي لأخيه كيف مات وحيدًا في البرد. 

نجى بأعجوبة، لكنه خرج محملاً بما هو أثقل من الموت نفسه: جرح لا يندمل، وبرد يسكن العظام، يعود كلما تذكر تلك الليلة. 

الكثيرون يعرفون قصته من تلك المقاطع التي انتشرت حينها، يوم كان الموت أقرب إليه من أي طريق، وأقرب حتى من فكرة النجاة نفسها. 

خرج اليوم وهو يحمل سؤالًا لا جواب له: هل النجاة نعمة أم لعنة أخرى أضيفت إلى سلسلة الغربة الطويلة؟!

نصف قرن من العمر خارج البلد، نستنزف فيه ببطء قاتل، نشيخ قبل الأوان، بعيدًا عن البيوت التي كان يجب أن نكبر فيها، نحيا فيها، ونموت فيها بين أهل وأولاد، لا على أرصفة المطارات، ولا في عُزب مؤقتة تشبه السجون أكثر مما تشبه الحياة.

قصتي ليست استثناء، بل واحدة من ملايين القصص المكررة لخمسة ملايين يمني مشرد في أصقاع الأرض، خرجوا من بلد يسمى "موحدًا"، لكنه كان منذ اليوم الأول قبرًا لأحلامهم.

بوحدة أو بدونها، نحن أصلًا مشردون ومضطهدون، نعيش تحت رحمة قوانين دول لا ترى فينا سوى أياد عاملة مؤقتة، تتخلص منا كالنفايات حين نشيخ.

الغربة لم تبدأ مع نقاش الانفصال، بل وُلدت يوم فشلت الدولة في أن تكون دولة، يوم صارت الوحدة ستارًا للنهب والإذلال.

الوحدة لم تحم الناس، ولم تبق الآباء قرب أبنائهم، ولم تمنح الأبناء فرصة أن يكبروا في أرضهم. كل ما فعلته أنها جعلت الرحيل قدرًا، والبقاء مخاطرة، وجعلت الوطن وعدًا كاذبًا يتلى في الخطب، بينما تفرغ البلاد من أهلها.

لم نحصد من الوحدة دولة، ولا كرامة، ولا أمان. حصدنا أعمارًا تستهلك في العمل والقلق، أعمارًا معلقة على إقامات مؤقتة تُجدد معها الإهانة كل عام، وجوازات لم تكن مفاتيح عبور، بل وصمة مذلة في كل مطار نهبط فيه.

حصدنا أيامًا متشابهة، وسنوات تمضي ونحن نؤجل العودة، ثم نؤجل الحياة نفسها، حتى يشيخ الحلم داخلنا. حصدنا غربة لا تشبه السفر، بل الاقتلاع. 

غربة يعيش فيها الإنسان معلّقًا بين مكانين: لا ينتمي كاملًا هنا، ولا يُسمح له بالعودة هناك.

صار التشرد حالة جماعية، لا مأساة فردية، وصار الوطن فكرة بعيدة لا تلمس إلا بالحنين. 

ملايين يعيشون الإحساس ذاته: تعب مزمن، وحدة صامتة، وشعور دائم بأن العمر يدفع ثمن أخطاء لم يرتكبها. نعمل أكثر، ونعيش أقل، ونشيخ قبل أواننا، بينما الوطن الذي غادرناه يواصل الانهيار من دوننا، ويباع قطعة قطعة.

لهذا يبدو الخوف المبالغ فيه من الانفصال مجرد مكايدة سياسية رخيصة. 

أي غربة نخاف عليها وقد صارت نمط حياة منذ عقود؟ وأي وطن نخشى فقدانه ونحن نحمله في الذاكرة أكثر مما نعيشه في الواقع؟ الانفصال لا يهدد استقرارًا قائمًا، لأن الاستقرار لم يكن موجودًا أصلًا.

أنا لم أروج للانفصال يومًا، وكنت من الذين صدقوا – بسذاجة الحالمين – أن الوحدة يمكن أن تكون وطنًا يتسع للجميع. لم أؤمن بها كشعار سياسي، بل كحلم إنساني بسيط: دولة تحمينا، قانون يساوي بيننا، وطن لا يذل أبناءه. 

ومن يتابع ما كتبت خلال سنوات مضت يعرف أنني كنت منحازًا للدولة لا للشعار، وللإنسان لا للخريطة.

كنت، ككثير من الشباب حينها، أحلم بيمن عظيم بعد 11 فبراير، يمن يكسر دورة الاستبداد والقبيلة، ويؤسس لدولة مدنية حقيقية. حلمنا بوطن لا يحتاج فيه الإنسان إلى واسطة ليعيش، ولا إلى سلاح ليحترم. 

لكن الواقع لم يخذلنا فقط، بل سحق هذا الحلم بلا رحمة، ثم حوّله إلى تهمة أخلاقية نلام عليها كلما طالبنا بدولة حقيقية أو بعدالة بسيطة.

لم أبك في حياتي كما بكيت وأنا أرى لعنة الح,وثي تطوف صنعاء المحتلة، تلاحق النساء بوقاحة «الصميل»، تدوس كرامة المدينة بكرسي السلاح، وتقتل آخر ذرة أمل في الإصلاح. 

في تلك اللحظة، لم يسقط حلم الدولة فحسب، بل انكسر داخلي الإيمان بإمكانية إصلاح هذا الخراب بالشعارات أو بطول الصبر، وانكسر وترك جرحًا ما زال ينزف إلى الآن.

الحقيقة المرة أن أعمارنا أكلتها الغربة، وأن الشمال تحول إلى ساحة مغلقة بين تطرف عنصري سلالي قبيح تقوده جماعة الح,وثي الملعونة، وأفكار إخوانية متعفنة تفصل الدولة على مقاسها، وطوق قبلي ألغى معنى الدولة من جذوره، وفساد منظم لقادة لا يقلون خطرًا ولا تخريبًا عن المتطرفين؛ قادة صادروا الوطن ونهبوا ما تبقى منه، ثم طالبونا بالصمت باسم «الوحدة».!

أرجوكم، اتركوا لنا الجنوب. ليس كمنّة ولا كمساومة، بل كحق. دعونا نشق فيه طريقنا، ونبني مكانًا نعود إليه بكرامة، لا كضيوف ولا كغرباء. وسنكون سندًا حقيقيًا لكم، لا وقودًا لحروبكم، بدل أن ندفن جميعًا بين فصيل منكم يقدس الموت ويخاف من دولة مدنية حقيقية، وفصيل آخر لا يقل عنه عفنًا، يقدس قادته ويحتقر الوطن، ويموت في المناصب.

الوحدة، كما عشناها، لم تنتج وطنًا، بل أنتجت غربة طويلة. لم تجمع الناس، بل فرقتهم، ولم تصنع انتماء، بل حولت الجغرافيا إلى لعنة، والعودة إلى حلم مؤجل. 

لذلك، السؤال الحقيقي ليس: ماذا سيحدث لو انفصلنا؟ بل: لماذا نصر على الدفاع عن صيغة لم تحم خمسة ملايين مغترب ومشرد، ولم تبق لهم وطنًا يعودون إليه، ولم تنقذ من بقي في الداخل؟

الخوف الحقيقي ليس من الانفصال، بل من الاعتراف بأن ما نعيشه منذ عقود ليس ثمن الحفاظ على الوطن، بل نتيجة العجز الكامل عن بنائه.

من صفحة الكاتب على الفيسبوك