محمد اليونسي

محمد اليونسي

تابعنى على

جنوب الزمن الذهبي.. العدالة البسيطة

منذ 3 ساعات و 10 دقائق

رغم كل ما يُقال عن تلك الحقبة (حقبة الرفاق) بما حملته من قسوة وشعارات كبيرة، إلا أنها بالنسبة لنا – نحن أبناء الريف – كانت زمنًا ذهبيًا لا يُنسى.

كنا نصعد إلى المدرسة في نفس (البابور) الذي يركبه أكبر مسؤول في المنطقة، وحتى قائد اللجان الشعبية، فلا يسبق أحدٌ الآخر إلا بابتسامته. نلعب في ساحة المدرسة مع أولاد المسؤولين ونتضارب معهم، ونرتدي جميعًا الملابس البسيطة ذاتها، والأحذية الممزقة نفسها. وكان هذا وحده يكفينا لنشعر أننا متساوون حقًا، وأن الوطن آنذاك كان قريبًا من الأرض، لا يعلو فوقها أحد.

كنا نفرح معًا ونجوع معًا، لا يفرق بيننا سوى نغمة الضحك في الوجوه.

أذكر يومَ فاز فريق مديريتنا بدوري كرة القدم؛ مشينا كيلومترات طويلة على الأقدام، وكان المسؤولون في المقدمة والناس بجوارهم بلا حواجز ولا سيارات فارهة، ولا غيرها، إلا قليل منها تقلّ النساء والأطفال والفريق المنتصر. كان العرق يتصبب من الجميع، وكان الفرح حينها ليس نتيجة فوز كروي فحسب، بل إحساسًا بأننا متساوون في الفرح كما كنا متساوين في الخبز.

ولم أنسَ فرحة الأهالي المختلطة بالدموع، عندما أعلنت إذاعة راديو عدن، ذات مساء، فوز ثلاثة من أبناء مركزنا بمنح دراسية لدراسة الطب في بلغاريا... لأن إنجازهم حينها جاء بالكد والاجتهاد فقط، وفي نظام كان لا يميز بين أبنائه إطلاقًا.

كانت أيامُنا بسيطة في مظهرها، لكنها غنية بالمعنى والروح. كنا نسير إلى المدرسة حفاة أحيانًا، نغني أناشيد لا نعرف معناها، ونرتدي مثلثًا أحمر يزين أعناقنا، ونرفع الأعلام حبًا لا نفاقًا. بعد المدرسة كنا نذهب إلى التعاونيات ونحصل على نفس كمية الغذاء التي يحصل عليها أكبر مسؤول، وبنفس سعر الدينار، ونسلك جميعًا الطابور المشترك نفسه.

تلك كانت العدالة البسيطة.. العدالة التي شعرنا بها في طفولتنا، والتي فقدناها بعد عام 90. عدالة الطفولة التي تؤمن أن الوطن بيت مفتوح للجميع، وأن المساواة ممكنة حتى في الفقر.

واليوم حين ألتفت إلى تلك الأيام لا أراها مثالية، لكني أراها صادقة.

كان في قسوتها شيء من العدل، وفي بساطتها شيء من الكرامة التي نفتقدها الآن.

لقد أخطأ الرفاق، نعم.. لكنهم لم يخونوا.

ولهذا بقيت تلك المرحلة في الذاكرة أجمل مما أرادها التاريخ، وأصدق مما ظن الناس.

من صفحة الكاتب على الفيسبوك