علي الحبشي

علي الحبشي

تابعنى على

جيل الحرب.. في وطن لم يستطع عليه صبرًا...

منذ ساعتان و 19 دقيقة

اعتدنا الصبر حتى صار جزءًا أصيلًا من يومنا، كأننا نولد به كما نولد بأسمائنا. كبرنا على فكرة أن الغد سيكون أفضل، وأن بلدنا سيُشفى مهما طال الوجع، لكن السنوات الطويلة من الحرب جعلتنا ندرك أن الصبر وحده لا يبني وطنًا، وأن الانتظار قد يتحول إلى شكل آخر من الغياب؛ غياب الوطن، وغيابنا معه.

نحن أبناء هذا البلد الذي كان يُعرف يومًا بـ"السعيد" – إن صحت الروايات – نعيش اليوم على هامش الأمل. الكل يتحدث باسم الوطن، لكننا نحن من يدفع الثمن. لم نكن نريد الكثير؛ فقط ليلًا آمنًا، ونهارًا مستقرًا، وبلدًا لا نخاف فيه من الغد. كنا نحلم بحياةٍ عادية، لكن "العادي" أصبح ترفًا نقرأ عنه في الأخبار فقط.

أنا واحد من جيلٍ كبر في زمن الحرب. حين كنت صغيرًا، كنت أرى في شبابي زمنًا للانطلاق، أقل تعبًا وأقصر مسافةً نحو ما أريد. كنت أؤمن أن أحلامي في العمل، والحرية، والكرامة ليست أكثر من حقوقٍ طبيعيةٍ سيمنحها لي وطني. لكني اليوم أرى أن ما حلمت به صار ضربًا من الخيال؛ أقراني في بلدان أخرى يعيشون ما أحلم به كأنه أمرٌ عادي: كهرباء لا تنطفئ، فرصٌ متاحة، وطمأنينةٌ لا تُناقش. لقد جاء ربيع أعمارنا في خريف هذا الوطن، فذبلت أحلامنا قبل أن تزهر.

كبرت لأرى المدارس مغلقة، والمعلمين بلا رواتب، والطلاب بلا كتب. رأيت الجنود يبحثون عن لقمة العيش، وهم حماة وطنٍ لم يعد يحمي أحدًا، والمزارعين يطاردون قطرة ماء، لا لريّ الأرض بل لريّ أفواههم. رأيت الأرض تذبل كما تذبل القلوب، والناس يتناقصون بين غربةٍ ونزوحٍ وانتظارٍ لا ينتهي.

في المدن تتكاثر الطوابير، وفي القرى يطول الصمت والعطش، وفي كل بيتٍ حكاية تعبٍ تُروى بصوتٍ خافت كأنها سرٌّ يجب أن يُخفى. لا أحكي هذه الكلمات من بعيد، بل من قلب تجربةٍ نعيشها جميعًا؛ في الظلمة حين تنقطع الكهرباء، في خليط الخوف والسعادة حين تمرّ طائرة، وفي الحسرة حين نرى أصدقاءنا يغادرون البلاد بحثًا عن حياةٍ تشبه ما كان يجب أن تكون حياتنا. لقد اعتدت قسرًا أن أحسب الأيام بالأزمات لا بالتقويم: أزمة وقود، أزمة خبز، أزمة وطنٍ بكامله.

اليوم، نحن الرواية المنسية في هذا العالم، بل وحتى في أنفسنا. يقول نيتشه: "إن الشعوب لا تموت حين تضعف، بل حين تفقد القدرة على الحلم." وربما هذا ما نحاول التمسك به؛ أن نحلم رغم كل ما يثقل أرواحنا. نحن لا نطلب المعجزات، نريد فقط وطنًا طبيعيًا — لا مثاليًا — وطنًا نستطيع أن نعيش فيه دون خوفٍ من الغد، ودون قهرٍ من الحاضر. نريد أن نرى وطننا كما كان في ذاكرتنا: بسيطًا، آمنًا، دافئًا.

مشكلتنا الحقيقية – في رأيي – أن الحرية اختلطت بالفوضى، والوطن بالمصالح، والمواطن بالنسيان. ومع كل هذا، ما زلت أؤمن أن الوطن يمكن أن يشفى، وأن هذا الليل، مهما طال، لن يكون قدرًا دائمًا. أرى الأمل في وجه طفلٍ يبتسم رغم الجوع، وفي أمٍّ تربي أبناءها على الحلم لا على الخوف، وفي كل يدٍ تبني رغم الانهيار.

نحن، جيل الحرب، لم نعد نطلب المعجزات، ولا التطورات الخارقة للعقل والعادة، فقط نطلب حياةً تشبه شيئًا من أحلامنا... قبل أن يُنهكنا الانتظار، والصبر الذي لم نستطع عليه صبرًا.