ربى عياش

ربى عياش

تابعنى على

الشرق الأوسط… حروب بلا اسم

منذ ساعتان و 25 دقيقة

إذا لم يكن ما يحدث في الشرق الأوسط خلال العامين الأخيرين هو الحرب العالمية الثالثة، فماذا تُسمّى إذًا الحروب العالمية؟ الكثير من اللاعبين والكثير من الأيادي كانوا طرفًا وجزءًا من هذه الحرب الوحشية على أهل المنطقة. حرب تتجاوز الحدود والجغرافيا، تتجاوز الحروب التقليدية بشكلها وكثافتها ورعبها. إنها تحولت إلى حرب ضد القانون والإنسانية والمنطق. حرب تعيد صياغة كل شيء في نظام عالمي انقلب على الإنسانية والعدالة، على الضمير، على الحرية، على الحق في الرأي والعقيدة والتفكير والاختلاف. حرب تقول بوضوح: إما أنا أو لا أحد.

هذه ليست مجرد صراعات مسلحة أو خلافات سياسية، بل حرب تسعى لتطبيع الجحيم عالميًا. حرب تريد أن يصبح القهر عادة، والدم مشهدًا يوميًا مألوفًا، والسكوت قاعدة عامة. ليس في غزة والضفة وحدهما، إنما أبعد. حرب حيث تغيب العدالة وتحوَّل الميكافيلية إلى دستور عالمي، تبرّر القسوة وتحتفي بالدمار، وتعلّم كل سياسي كيف يكون تكسير رؤوس الأفراد، وكيفية التحكم بهم والتلاعب بمصيرهم وإخضاعهم. حرب على الإنسان وروحه وقدره وإرادته وحريته في الاختيار. حرب تجعل من الفساد والشرّ وانعدام الضمير القيمَ السائدة. نحن أمام حرب ضد كل ما كان يومًا أساسًا أخلاقيًا أو فكريًا أو إنسانيًا.

اليوم، لم تعد هذه الحرب تقتصر على بقعة جغرافية محددة، حتى وإن كان المتضرر المباشر هم غزة والضفة ولبنان وسوريا واليمن والعراق. حتى الدول التي ما زالت تحاول ضبط التوازن، كالأردن ومصر، أصابها الارتباك، واشتد خوفها على أمنها واقتصادها وتماسكها الاجتماعي ونسيجها الفكري. حتى أصبحت المنطقة بأكملها ساحة مفتوحة لتجارب سياسية واقتصادية وإعلامية، يدفع ثمنها المواطن البسيط: بجسده، بعقله، بكرامته، بحريته، وبحقه في ممارسة إنسانيته وحقوقه، وحقه في أهم شيء: الأمان.

الأخطر من كل ذلك هو هذا التطبيع الخفي لفكرة أن اللا أمان طبيعي. أن الغارات الفجائية عادية. أن الخوف من الغد جزء من روتين الحياة. أن اللا يقين في كل شيء هو العادي. أن تهميش الإنسان وإسكاته أمرٌ مفهوم. أن حرية الرأي والمواطنة والمساءلة مفاهيم ترف لا مكان لها في عالم يسير بخطى واثقة نحو القسوة المطلقة. صار القمع مقبولًا، والهيمنة الفكرية متوقعة، والتطرف مبررًا، والظلم يُقدَّم بلبوس الأمن والسيادة.

ستراه في صراعات من شرق هذا العالم حتى غربه، حتى وإن كانت تتصدره منطقة الشرق الأوسط. لكن انظر إلى حرب روسيا وأوكرانيا، التي تجسد حرب الدب الروسي ضد الغرب، ومحاولات روسيا إبقاء مستعمرات الاتحاد السوفيتي بين يديها. إلى إيران ومحاولاتها ابتلاع ما يمكن إبتلاعه. إلى الصين وتايوان، وأبعد إلى صراعات القارة الإفريقية.

هذه الحروب ليست فقط على الأرض، بل على الوعي أيضًا. حرب هجينة تجمع بين العنف المسلح والحرب الاقتصادية والإعلامية والثقافية. هدفها ليس فقط السيطرة على الأرض، بل على الوعي، على إعادة تشكيل العقل الجمعي، حتى نرى الظلم طبيعيًا. حيث يصبح الشر تافهًا بمعنى يمكن تعزيزه من خلال رضوخ الأفراد للأمر الواقع. ومن خوفهم ورعبهم يتحولون إلى أدوات قمعية للآخر، للجار، للعدو والصديق. حيث يصبح الخراب قدرًا، وإنكار الألم والمأساة آلية نفسية دفاعية من أجل الصمود وبحجة الواقعية.

هي حرب تعيد هندسة المنطقة والعالم وفق مصالح قوى بعينها، حتى لو كان الثمن هو سحق إنسانية الناس، وتدمير المجتمعات، وإبادة الذاكرة المشتركة. لقد نجح هذا النظام العالمي الجديد في تسطيح المفاهيم، فباتت الحقيقة نسبية، والعدالة وجهة نظر، والإنسان مجرد رقم في نشرات الأخبار. تحوّل الخطأ إلى سياسة، والخراب إلى مشروع، واليأس إلى حالة عامة.

ثم نسأل بعد كل هذا: لماذا؟ إلى أين؟ وكيف نخرج من هذا المشهد المرعب؟ من أين يكون المفرّ من قبضة نظام يريد نهشك بجسدك ومالك وعقلك؟ نظام لا يريد فقط إخضاعك، بل يريد منك أن تقبل إخضاعك. يريدك أن تبرّر خوفك، وأن تصمت باسم الواقعية، ولأجل الفتات، وأن تحتفل بألم غيرك كأنه نصر لك.

لكن التاريخ علّمنا أن لكل فعل ردّ فعل، وأن الظلم لا يدوم. الخير والشر لا يدومان. وأجمل ما في قانون هذا الكون أن كل شيء مؤقت. الطاقة المتحركة والمتحولة قابلة للتغيير وتأخذ أشكالًا مختلفة مغايرة. ولكن أيضًا الكراهية لا تنتج إلا كراهية مضاعفة، والعنف لا يخلّف إلا ظلامًا أعمق.

غير أن الخطر اليوم أن تُصبح هذه الكراهية طبيعية، أن تُسوّق بوصفها ضرورةً أمنية أو خيارًا واقعيًا. أن نرى العالم منقسمًا بين من يستحق الحياة ومن لا يستحقها. أن يتقن العالم الحديث تطبيع الفوضى، حتى يصبح غياب القانون والرحمة والحكمة مشهدًا مألوفًا، لا يثير غضبًا ولا استغرابًا.

وفي قلب هذا الخراب، ما زال السؤال قائمًا ومستمرا معنا: هل يمكن النجاة؟ ربما لا، وربما فات الأوان. ربما لن تكون النجاة سريعة ولا سهلة، لكن حتمًا الخلاص يبدأ من الوعي، من الرفض، من كل قرار فردي بأن يتمسك كل فرد بضميره وأخلاقه ويضبط شياطينه بالرغم من العيش وسط نظام عالمي قاس. الخلاص يبدأ من رفض التطبيع مع الألم، ورفض تصديق الأكاذيب المكررة، ورفض الموت، وأن نطلب الحياة لنا وللآخرين. يبدأ من رفض أن نصبح متفرجين على ذبح إنسانيتنا باسم “الواقعية السياسية” وباسم المصالح.

النجاة تبدأ حين نعيد تعريف أنفسنا كبشر، لا كأرقام في خرائط المصالح. حين نعيد الاعتبار للضمير وللعدالة. قد لا نوقف الحرب غدًا، وقد نكون على أعتاب مشاهد أكثر قسوة وقرارات وتغييرات ديموغرافية وجغرافية قاسية للعالم ولأهالي منطقة الشرق الأوسط خاصة. لكننا نستطيع تحجيمها أو أن نمنعها من أن تقتل أرواحنا ونحن أحياء، أو على الأقل أن ننقل الحقيقة الضائعة للأجيال القادمة، لعلهم يستطيعون إصلاح هذا الفشل العظيم الذي كنا جميعًا، العدو والصديق، الخصم والرفيق، سببًا فيه.

في النهاية، ليست الحرب فقط تلك التي تُطلق فيها الصواريخ، بل تلك التي تُخاض داخل الوعي. وحين يُهزم الوعي، يُهزم الإنسان. لهذا، ربما السؤال الأصدق ليس: هل نعيش حربًا عالمية ثالثة؟ بل: هل ما زلنا نملك القدرة على أن نكون بشرًا في عالم يريد أن يُطفئ فينا آخر ما تبقّى من إنسانية؟

* المصدر: صحيفة العرب اللندنية