مفهوم "الكهنوت" مصطلح ذو جذور مسيحية، يشير إلى مسار ديني مُنظم حيث يُخصَّص أفراد معينون لأداء طقوس دينية وخدمات روحية ضمن السلطة الروحية للكنيسة. هؤلاء الأفراد يُعرفون بالكهنة، ويعتبرون وسطاء بين (الله) والمجتمع المؤمن. الكهنوت داخل الكنيسة لا خارجها، حيث يلعب الكهنة دورًا محوريًا في إدارة الطقوس الدينية، مثل تقديم الأسرار المقدسة، وإقامة القداسات، ومنح البركات، وتقديم الإرشاد الروحي.
في السياق المسيحي، نشأ نظام الكهنوت منذ العصور الأولى للمسيحية، يشمل تنظيمات هرمية تضم ثلاثة مستويات رئيسية: أساقفة، قساوسة، وشمامسة. هذه التنظيمات تخضع لسلطة الكنيسة وتعتبر جزءًا لا يتجزأ من بنيتها. وبالتالي ليس له ارتباط بالحكم والدولة. (والكاهن الأعظم هو السيد المسيح نفسه).
على الجانب الآخر، لا يوجد في الإسلام مفهوم الكهنوت. رجال الدين في الإسلام، مثل الأئمة والمشايخ، يقومون بدور تعليمي وإرشادي، ويوضحون النصوص الشرعية ويفسرونها، لكنهم لا يمتلكون سلطة دينية تحت نظام كهنوتي.
فعندما أقرأ أو أسمع –ولطالما يتكرر ذلك- مصطلح "حكم كهنوتي" في إطار إسلامي، لا أدري ما القصود به في الحقيقة؟! هذا الاستخدام غير دقيق ولا أساس له من الصحة. الإسلام لا يعرف نظامًا كهنوتيًا على الإطلاق، والحكم الإسلامي يعتمد على الشريعة الإسلامية وتفسير العلماء لها (وهم هنا علماء الشريعة بالطبع)، لكن هؤلاء العلماء ليسوا كهنة ولا يحتلون مناصب كهنوتية.
استخدام هذا المصطلح يشوش الفهم الصحيح لطبيعة السلطة الدينية في الإسلام ويخلط بين نظامين دينيين مختلفين تمامًا.
فإذا ما أردنا أن نشير إلى طبيعة الحكم الديني الإسلامي لنسمه مباشرة "الدولة الإسلامية"، أو "تطبيق الشريعة الإسلامية"، وفقط. هذا هو الموقف، لكن التخفي حول مصطلحات أخرى لا يعني إلا الخشية من مجابهة المصطلح المباشر كما هو.
أما "الحكم الكهنوتي" فلا يُطلق إلا على الكنيسة في العصور الوسطى قبل فصل الدين عن الدولة. والكنيسة بالطبع ارتكبت خطأ فادحًا إذ خلطت بين السلطة الروحية الممنوحة لها من المسيح، وبين الدولة. المسيح ذاته قال، "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لـ(لله) لـ(لله)"، وهذا قول فصل، قاطع مانع.
لكن الخلط على ما يبدو كان قادمًا من السياق الشيعي المتأثر، بشكل أو بآخر، بالنظام الروحي المسيحي. فـ"الكاهن" بمعنى الوسيط، وهذا مساره المعروف في اليهودية والمسيحية، إنما، وكردة فعل في الأوساط الثقافية اليمنية المناهضة لسلطة الإمامة السلالية – اللا أبأس منها – نُظر إليها على أنها تقوم بدور الكهانة، أي الوسيط والحاكم بأمر (الله) في مصادرة حق الحكم خارج إطار السلالة. وهذا مسار ابتدعه الفاطميون على ما يبدو، كأول نظام حكم من المذهب الشيعي في إطار الخلافة الإسلامية التي كانت جلها سنية.
لكن حتى الشيعة، لا يوجد لديهم "كهنوت" بالمعنى الدقيق للكلمة. وإلا من هو الكاهن الأعلى لديهم؟ لا يوجد. "علي" لم يكن كذلك.
وبناءً عليه، في الوسط السني لا بد أن نشير إلى "الدولة الإسلامية" أو "تطبيق الشريعة الإسلامية"، أو حتى "نظام الخلافة" لكن هذا المصلح واسع الدلالة، وفي الوسط الشيعي لا بد من الإشارة إلى "ولاية الفقيه"، وهي تسميات خاصة بهم.
من المهم ضبط المصطلحات يا رفاق.
والدولة لا بد أن تكون "علمانية"، إذ لم تنجح "الدولة الدينية" أبدًا على مر التاريخ.
من صفحة الكاتب على الفيسبوك