محمد العلائي

محمد العلائي

تابعنى على

مرافعة جون لوك ضد الاصطفاء الإلهي

Saturday 03 February 2024 الساعة 09:25 am

خصَّصَ الفيلسوف والمفكر الإنجليزي جون لوك الشطر الأول من كتابه "الحكم المدني" لنقض الفكرة التي تقول إن الاصطفاء والاختيار الإلهي يشكلان الأساس الشرعي الوحيد لسلطة الملوك.

غير أن لوك (توفي 1704م) لم يقف من الدين موقف التحدي والمواجهة وإنما كان أقرب إلى المسايرة والنفوذ إلى منطق الخصم من خلال الدين نفسه، وهذا يعني التفنيد الهادىء للحُجج من داخلها باستخدام النصوص ذاتها، ولكن مع إعادة تأويلها في الاتجاه المضاد، على نحو مشابه لما كان يفعله الفقهاء والمصلحون التقليديون في التاريخ الإسلامي.

في عصر لوك، لم يكن هناك خيار آخر، ذلك أن الفكرة التي قرر إعلان الحرب عليها تستقوي بسلطة الدين وتتخذ من الكتاب المقدس مرجعية لها، وكان أصحابها -وعلى رأسهم مؤلف يدعى روبرت فيلمر ومقالته محور ردود لوك- يقيمون نظريتهم على الزعم بأن الله نصَّب آدم بنصّ صريح ملكاً وسلطاناً على أولاده وزوجه وعلى بقية المخلوقات في الأرض، ثم انتقل هذا التعيين بالوراثة من آدم إلى الأكبر فالأكبر من ذريته، (حق البكورية).

وأسندوا أقوالهم إلى تأويلات خاصة لنصوص وحوادث وأمثلة وردت في التوراة -خصوصاً سفر التكوين وسفر اللاويين- لإثبات تسلسل السلطة بالوراثة من آدم مروراً بنوح وإبراهيم ويعقوب وصولاً إلى موسى ويوشع "والشيوخ من بني إسرائيل".

فـ آدم في البداية -كما يقول هؤلاء- إنما حاز سلطته بموجب أمر الله، وحين صار لـ آدم أولاد هو أبوهم، أصبح له بالتالي مطلق السلطة عليهم.

وبهذا وجب أن تكون كل سلطة شرعية في العالم مشتقة من جنس سلطة آدم الأب، فهي "سلطة إلهية" لكونها صادرة عن الله، وهي "سلطة مطلقة" عسفية غير قابلة للحد يخضع لها أولاده وحرياتهم وأملاكهم لا لشيء إلا لأنه أب لهم، ومن ذلك جاء لقب "الأب الحاكم" أو "البطريرك".

حسناً..

يقول لهم جون لوك؛ لنفترض أنكم على صواب، لكن من هو اليوم الملك "صاحب الحق" الذي وحده تجب طاعته دون غيره وفقاً للمعايير اللاهوتية الاصطفائية الصارمة التي حددتموها في مقالاتكم؟

كل جهودكم هباء طالما لم ولن تستطيعوا أن تخبرونا كيف يمكن لنا أن نحدد أو نتعرف اليوم -بل وفي كل عصر وفي كل بلد ومن بين ملايين البشر- على هذا الوريث الشرعي الوحيد لسلطة آدم الأبوية التي قلتم إن الله أسندها إليه قبل آلاف السنين؟

وبما أن من المستحيل تحديد ذلك لأسباب كثيرة، منها عدم وجود قاعدة طبيعية أو إلهية تضبط التعاقب الوراثي للسلطة الوحيدة الموافقة لأوامر الله، إذاً فكل الدعاوى التي تبرر الحكم بـ "التعيين الإلهي" باطلة.

ونظراً لغياب هذه القاعدة، فـ الحق الإلهي ادعاء باهت عديم القيمة لأنه متاح في متناول الجميع، إذ لا شيء يمنع أي طامح في أي بلاد، من إشهاره في وجه أولئك الذين يرغب في إخضاعهم لسلطانه، فيدعي أن سلطته إنما هي حق وصل إليه بالوراثة من السلطة المقدسة الأولى لـ آدم، كي يجيز لنفسه التصرف في حرياتهم وممتلكاتهم دون رادع.

وهذا ما كان قائماً بالفعل حينها في أقطار متفرقة من أوروبا.

ومما جاء في كتاب جون لوك:

"... حين يصبح الشعب فريسة للبؤس ويقع بين براثن السلطة الغاشمة، فمهما أغرقتَ في دعوة حكامه أبناءً لرب الأرباب (جوبيتر)، وأسبغتَ عليهم حلّة القداسة والربوبية، وزعمتَ أنهم قد هبطوا من السماء أو استمدوا سلطانهم منها -بل ادعهم أو صفهم بما تشاء وكما تشاء- فالنتيجة واحدة: 

إن الشعب الذي اضطُهد باطلاً سوف يهبُّ لدى أول فرصة تسنح له لطرح العبء الذي يثقل كاهله. وسوف يتطلع إلى السانحة التي قلما تبطىء، وسط تقلب الأحوال البشرية وحدثان الزمان، وينشدها. ولا شك أن الذي لم ير شواهد على ذلك في إبان حياته، لم يكن من طويلي الأعمار، والذي لا يستطيع إيراد مثل هذه الشواهد في حكومات العالم المختلفة لم يطالع الكثير من الكتب".