د. صادق القاضي

د. صادق القاضي

تابعنى على

المشكلة أكبر من مجرّد رواتب مقطوعة!

Wednesday 15 March 2023 الساعة 05:40 pm

في الشهر الماضي، قرر كثير من الموظفين اليمنيين في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية الاحتفال فجأة، وطفقوا بتجهيز أكياس كبيرة لاستلام رواتبهم المتأخرة المتراكمة منذ سنوات.!

قيل لهم: إن القيادة الحوثية "القوية الحازمة" فرضت شروطها على السعودية التي دفعت "وهي صاغرة" رواتب الموظفين بالعملة الصعبة، بل وأوصلتها "مرغمة" بطائراتها الخاصة إلى مطار صنعاء.!

مثل هذه الانتصارات الوهمية والبطولات الزائفة. تصدرها الماكينة الإعلامية الحوثية كل يوم تقريباً. وإن كان الخبر هذه المرة أكثر سخرية بأوجاع الموظفين الذين يعيشون هم وأسرهم أوضاعاً لا إنسانية، ويحاولون كالغرقى التعلق حتى بقشة.!

ليس من الحكمة نثر الملح على هذا الجرح الوظيفي الكبير. لكن الحقيقة مطلوبة، وإن كانت مرة، والحقيقة هنا أن القضية أكبر وأكثر تعقيداً من مسألة رواتب مقطوعة، بل تتعلق بشكل جذري بالمستقبل الوظيفي برمته، وما يتصل بالوظيفة العامة من واجبات وحقوق ومحددات ومكتسبات مالية وقانونية وإنسانية.

بشأن الرواتب. على الموظفين اليمنيين في مناطق السيطرة الحوثية، أن يثقوا تماما أن الأمل الوحيد في هذا الشأن هو بسقوط الانقلاب الحوثي. وعودة الدولة. لا بانتظار صحوة ضمير الجماعة الحوثية.

هذه الجماعة حلت الدولة السابقة من جذورها، وفي المقابل كونت دولة موازية بديلة، بأسس وقيم مختلفة تماما، وبموجبها فإن الرواتب باتت من الماضي "المرفوض"، ولا يمكن أن تعود بأي صيغة تقليدية مألوفة.

ربما تعود على شكل معونات معيشية "صدقات" من "قائد الثورة". لكنها لن تكون ثابتة ولا منتظمة ولا كافية، ولن تظل محمية بدستور، ولا محسوبة قانونيا من الحقوق المكتسبة للموظفين. 

الوظيفة نفسها لن تظل بمعاييرها القانونية التقليدية، ستصبح بصيغة تشبه "التعاقد" المؤقت. سيتم الاستغناء عن أكبر عدد من الموظفين، واستبدالهم بكوادر مدجنة، وسيكون بإمكان أصغر مسئول حوثي الاستغناء عن خدمات أي موظف، وطرده من وظيفته، لأي سبب من الأسباب.

وبالذات الأسباب السياسية والعقائدية والأيديولوجية.. الجماعة الحوثية عبرت، العام الماضي، بكل وضوح عن هذا التوجه الصارم. بإصدار ما سمته "مدونة السلوك الوظيفي"، هذه المدونة هي بمثابة الجزء الأول من القانون الحوثي الجديد الذي سيحكم الوظيفة العامة.

هذه المدونة تفرض على الموظف التزامات عقائدية متصلة بتأويلات محددة للقران، وفبركات موجهة للسيرة والحديث والتاريخ.. كما تلزمه بتعهدات سياسية متعلقة بقضايا الجماعة، وأولويات عملية لا صلة لها بالقيم الوظيفية المعهودة. 

أي أن الوظيفة العامة باتت خاضعة بشكل صارم لفحص الموظف حتى على صعيد معتقداته.. وأن عليه اعتناق أيديولوجية الجماعة، وتبني قضاياها وتوجهاتها وشعاراتها ورموزها.. كشروط حاسمة للاحتفاظ بوظيفته.! 

إنها عملية تدجين شمولية عميقة واسعة تلزم الموظف بالخضوع في كل صغيرة وكبيرة من أفكاره وسلوكه وحتى ثيابه وكلامه وهواياته وخياراته.. لمعايير محددة مسبقا من قبل الجماعة.. وإلا فإن عليه أن يتوقع الاستغناء عن خدماته وعزله عن وظيفته التي لن يكون راتبها أكثر من هبة إمامية لا تكفي لسد الرمق.