على الرغم من شهرة "الحرباء" في مقام "النفاق"، إلا أن حيوان "اليربوع" هو صاحب الامتياز في صناعة اللفظ والمعنى المتعلقين بهذا المصطلح الذي يعود في أصله اللغوي إلى "النَّفَق". نَفَق "جُحْر" "اليربوع"، بشكل خاص، هكذا يقول أهل اللغة، ويمكن ملاحظة أن العلاقة بينهما علاقة مشابهة مجازية، قائمة على عدة جوانب:
أولاً: كلاهما "النفق والنفاق" يتعلقان بشيء مخفي تحت السطح: النفق بممر مخفي تحت الأرض، والنفاق بعقيدة مخفية تحت العقيدة السائدة.
ثانياً: كلاهما قائم على "الازدواجية": النفق مزدوج المنافذ، والنفاق مزدوج العقيدة.
ثالثاً: الازدواجية في كليهما حيلة لاتقاء خطر حقيقي أو متخيل على السطح. في النفق اتقاء خطر الحيوانات المفترسة، وفي النفاق اتقاء قمع الشمولية القائمة.
ولا شك هناك الكثير من الفروق. منها أن "اليربوع" يهرب عند الخطر، من الفتحة المقابلة لهجوم الحيوان المفترس، بينما المنافق يهرب باتجاه الخطر نفسه، بمداهنة القائمين على الوضع القائم، ومنها أن العملية في حالة اليربوع تفرضها الغريزة، وتتم بلا وعي، بينما في حالة البشر تتم بكامل الوعي والإرادة.
كما أن النفاق عند البشر، متعدد الجوانب والمستويات، ورغم كونه ظاهرة سيئة السمعة، في العالم كله، إلا أنه شائع بنفس القدر، وبكل أنماطه: ديني، طائفي، اجتماعي، سياسي، طبقي.. وعلى الصعيد الديني، وهو الأكثر ارتباطا بالمصطلح في التاريخ. يتم النفاق بأشكال مختلفة:
- إما بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، كحالة ملحد في مجتمع كهنوتي، وهو حال كثيرين في المجتمعات الشمولية.
- أو بإظهار الكفر وإخفاء الإيمان، كحالة متدين في مجتمع إلحادي، يقال إن هذا كان حال كثيرين في ظل النظام الشيوعي للاتحاد السوفييتي السابق.
- أو بإظهار الإيمان بعقيدة وإخفاء الإيمان بعقيدة أخرى، وهو الأكثر شيوعا، والأكثر ملابسة وحساسية في التاريخ.
والنفاق في الأغلب حالة اضطرارية، ولأنها كذلك فقد تبدو حالات فردية مؤقتة، لكن لأن العملية مرتبطة بالأنظمة والعقائد والمجتمعات "الشمولية"، فهي ظاهرة جماعية في ظل هذه الأنظمة، وهو انعكاس لظاهرة الشمولية، ويرتبط معها طرديا. كلما اتسعت الشمولية اتسعت رقعة النفاق، وكلما ارتفعت درجة القمع، تعمقت درجة النفاق.
تصل الشمولية أحيانا إلى حالات قريبة من الجنون، ولعل الأشهر في هذا المقام، ما حدث للمسلمين بعد سقوط الأندلس إذ أقامت الكنيسة والحكام الجدد محاكم التفتيش في جميع المدن الأندلسية التي سيطروا عليها، ومن خلالها تم التنكيل بالمسلمين بشكل يفوق التصور، فاضطروا لإظهار المسيحية وإخفاء الإسلام، ولعل أبلغ نص في الدلالة على تلك الشمولية القمعية، الفتوى التي أرسلها مفتي "وهران"، "أحمد بن بوجمعة المغراوي"، بتاريخ غرة رجب سنة (910 هـ. 1504 م) ومنها:
"وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام، أو حضور صلاتهم، فأحرموا بالنية، وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم ومقصودكم الله. وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام، وإن أجبروكم على شرب الخمر، فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلفوا عليكم خنزيرًا، فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم، ومعتقدين تحريمه، وكذا إن أكرهوكم على محرّم، وإن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم، ولو وجدتم قوة لغيرتموه. وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام، فافعلوا منكرين بقلوبكم، ثم ليس عليكم إلا رؤوس أموالكم، وتتصدقون بالباقي إن تبتم لله تعالى، وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والألغاز فافعلوا. وإلا فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك. وإن قالوا اشتموا محمدًا، فإنهم يقولون له ممد، فاشتموا ممدًا، ناوين أنه الشيطان".
في تاريخ العالم الإسلامي حدث شيء من هذا القبيل للأديان الأخرى، لكن في حالات نادرة، وبدرجات محدودة بالمقارنة، كما حدث للنصارى واليهود في مصر في عهد "الحاكم بأمر الله" الفاطمي، مما اضطر كثيراً منهم لإظهار الإسلام، وإخفاء النصرانية، وعاد بعضهم إلى أديانهم لاحقا، كما حدثت العملية أحيانا على مستوى المذاهب.
وقد تفهّم بعض الفقهاء حالات النفاق المبررة هذه، وأدرجت ضمن مصطلح "التقية"، ورغم ورودها في النص القرآني: "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه"، ورغم كونها لا تحتاج لفتوى أصلا، فقد اختلف فقهاء الإسلام حولها، فرفضها السنة وقبلها الشيعة، وهذا طبيعي، فطوال التاريخ الإسلامي كان السنة في الأغلب، هم الأغلبية والسلطة، وكان الشيعة من ضمن الأقليات المعارضة.
كان الشيعة، إذن، هم المنافقون المعذورون، وهناك سنة في حالات أخرى، وفي كل حال فقد استولى الشيعة أحيانا على السلطة، في بعض البلدان الإسلامية، وبعض هذه البلدان ذات غالبية سنية، وقدموا تجارب ليست كلها سيئة، كانت التجربة الفاطمية في مصر جيدة، فرغم ما حدث في عهد الحاكم بأمر الله. لا يمكن مقارنتها بتجربة الحشاشين في الشرق.
ومع ذلك فإن تجربة الشيعة في السلطة اليوم أقرب لنموذج الحشاشين منها للتجربة الفاطمية، هروباً من "التكفير" الذي يزعمون أنه صفة بعض خصومهم، أطلقت الجماعة الحوثية -منذ بداية هذه الحرب- مصطلح "منافقين" على كل خصومهم الذين يواجهونهم جهارا نهارا.. بالكلمة أو السلاح أو العمل السياسي.!
لكن -وبغض النظر عن طبيعة المشكلة اليمنية أصلا، بين كونها دينية أو سياسية- هذه الصفة هي باللغة والمنطق والعقل والعرف.. خاطئة على الإطلاق.
النفاق: هو "إظهار شيء، وإخفاء نقيضه"، وبالتالي لا تطلق صفة "منافق" على الخصم الواضح، بل على الحليف المشكوك بأمره، وكان من المقبول أن يطلقوها على من أرادوا من أتباعهم "المتحوثين".
لكن، بعض أو ربما معظم هؤلاء "المتحوثين"، وإن كانوا يستحقون هذه الصفة، هم معذورون، ومضطرون لـ"التقية" للحفاظ على مصالحهم أو ربما حياتهم من قمع هذه الجماعة الشمولية العنيفة.
"التقية" هي نفاق حلال، لأنها قائمة على الضرورة، و"الضرورات تبيح المحظورات"، أنا في هذه المسألة مع رأي الشيعة، وهو رأي اعتنقوه في ظل ظروف قمعية لم تكن أشد سطوة من الظروف التي فرضها الحوثيون منذ سنوات على اليمن.
النفاق ظاهرة بشرية، وهي ظاهرة فردية وجماعية، وحالة نفسية وعقلية وأخلاقية غير طبيعية، ولا سوية، وتدل على وجود خلل كبير في الفرد أو المجتمع أو السلطة، فشيوع النفاق في أي مجتمع، لا يشير إلى مشكلة في الشعب، بل إلى مشكلة كبرى في النظام، ودلالة بديهية على أن هذا النظام نظام شمولي قمعي يضطر الناس للنفاق لاتقاء شره، أو للحفاظ على مصالحهم، أو ربما حياتهم، من عملية القمع والاستلاب الشاملة.