كثيرون حول العالم يكرهون أمريكا، ويتمنون ويتوقعون سقوطها منذ عقود طويلة، وكلما برزت قوة دولية جديدة مثل الصين، أو حدثت مشكلة لها بعد عالمي مثل اجتياح روسيا لأوكرانيا، ازدادت كثافة التنبؤات بالسقوط الوشيك لهذه القوة التي تمارس منذ عقود دور شرطي العالم.
أنظمة كثيرة سقطت وهي تبشّر بسقوط أمريكا، وتنظّر وتنتظر هذا السقوط الكبير، في حين صارت أمريكا أقوى، ليس لأن أمريكا معصومة من السقوط، بل لأن سقوط الدول مرهون بتوفر شروط موضوعية ليس منها عواطف وأمنيات الآخرين.
أمريكا، كأيّ قوة دولية، قابلة للسقوط، ومن المؤكد أنها على المدى القريب أو المتوسط ستتراجع خطوات إلى الخلف وتفسح لقوى دولية أخرى في إدارة الشأن الدولي، في ظل نظام دولي جديد، لكن هذا لا يعني السقوط بأي حال.
السقوط يعني أن تخرج من اللعبة، من المتن إلى الهامش، كما حدث للسوفييت عام 90، وكما حدث للسوفييت، بسبب الأصولية الشيوعية، لا يمكن لأمريكا أن تسقط إلا لأسباب متعلقة جوهريا بنظامها الحاكم، وما يستند عليه من مرجعيات نظرية وفكرية، وما يرتبط به من تصورات وتطبيقات.
الديمقراطية والعلمانية والليبرالية هي الأسس العميقة لكينونة الدولة والمجتمع الأمريكي، وبقاء واستمرار أمريكا قوية ومؤثرة مرهون ببقاء وترسخ هذه الأسس، ما يجعل فرضية سقوط أمريكا بسقوط هذه الأسس حتمية لا خلاف حولها.
من هنا بدأت تُقرع أجراس الخطر في أمريكا، بدأت المشكلة، كما يقول "سكوت هيبارد" في كتابه (السياسة الدينية والدول العلمانية) منذ عهد الرئيس "نيكسون" (69 : 1974م) بسياسته الدينية المخططة التي غيرت جوهرياً المسار الإيجابي للسياسة الأمريكية..
على المستوى الفكري والاجتماعي الراهن، برهن معهد "جالوب" للاستبيانات والإحصاءات، قبل فترة بطريقة إحصائية أن أمريكا، بعكس معظم الدول المتقدمة، تمر بحالة تصاعد مستمر للتدين، وصولاً إلى نسبة 65%. من عدد السكان.
من جهته، وبطريقة علمية ساخرة تغلغل "تشارلز دوكنز" في وصف وقائع وتجليات الظاهرة الأصولية التي تهدد الفكر والعلم والحريات في المجتمع الأمريكي المعاصر.
هذا ما يهدد أمريكا بشكل فعلي، الموت لأمريكا لن يأتي من شعارات الأنظمة الأصولية لملالي إيران، وصرخات حناجر حزب الله والجماعة الحوثية، بل من تنامي القوى الأصولية الأمريكية نفسها، وإن سقطت أمريكا فستسقط بسبب طالبان أمريكا، لا طالبان باكستان وأفغانستان وأخواتها من بوكو حرام إلى داعش.. هذه القوى الأصولية والجماعات الإرهابية لا تهدد أمريكا بقدر ما تهدد حاضر ومستقبل المنطقة.!
لا أتمنى سقوط أمريكا، فبغض النظر عن ملف سياستها الخارجية، أمريكا أمة عظيمة، أحدثت طفرة شاملة في مختلف مجالات العلوم والفنون والتكنولوجيا.. ما جعل الحياة أفضل، ودفع الحضارة الإنسانية قفزات هائلة إلى الأمام.
في الأخير لن تسقط أمريكا على المدى القريب، لكن قوتها الذاتية وحضورها ونفوذها العالمي، مهددة بالأصولية، وإن ظلت الأمور تنحو نفس الاتجاه، ستنكمش بالتدريج توازيا مع التمدد التدريجي للقوى والنزعات الأصولية فيها، بما يهدد مستقبل أمريكا، وربما مستقبل العالم.