تشير تصرفات إيران في فيينا الى رغبة واضحة في استغباء العالم وذلك بعدما اعتمدت سياسة كسب الوقت بغية تحقيق هدف واضح.
يتمثّل هذا الهدف في وضع المجتمع الدولي أمام أمر واقع.
يجدر بالعالم التعاطي معها من هذا المنطلق.
تعتقد «الجمهوريّة الإسلاميّة» أن التفاوض من موقع الدولة النوويّة يسمح لها بفرض شروط معيّنة لم تستطع فرضها منذ دخول جو بايدن الى البيت الأبيض قبل أحد عشر شهراً.
في مقدّم هذه الشروط الفصل بين ملفّها النووي من جهة وسلوكها في المنطقة من جهة أخرى.
يشمل هذا السلوك في طبيعة الحال الصواريخ البالستيّة والطائرات المسيّرة التي استخدمت في بلدان عدّة بينها العراق واليمن وفي الاعتداء على المملكة العربيّة السعوديّة والمنشآت النفطية فيها، كما حدث في خريف العام 2019، عندما استهدفت إيران منشآت «أرامكو».
كانت إيران تعتقد أن تغييراً جذرياً سيطرأ على الموقف الأميركي بمجرّد التخلّص من إدارة دونالد ترامب التي كانت تعرف جيداً ما هي سياسة «الجمهوريّة الإسلاميّة» في المنطقة.
لم يكتف دونالد ترامب بعرض شامل دخل في تفاصيل التفاصيل في كلّ ما يتعلّق بالعدوانية الإيرانية تجاه الولايات المتحدة منذ سقوط الشاه في العام 1979.
ذهب إلى أبعد من ذلك عندما مزّق الاتفاق في شأن الملفّ النووي الذي توصلت إليه إيران مع مجموعة الخمسة زائداً واحداً صيف العام 2015... في السنة الأخيرة من عهد باراك أوباما.
في آخر المطاف، كشفت إدارة ترامب انّ «الجمهوريّة الاسلاميّة» ليست سوى نمر من ورق.
لم تستطع إيران الردّ على اغتيال أميركا لقاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» في الثالث من كانون الثاني - يناير من العام 2020 بعيد مغادرته مطار بغداد.
تبيّن أنّ إيران عاجزة عن الردّ عندما تتخذ الإدارة الأميركيّة، أي إدارة أميركيّة، موقفاً متشدداً منها.
في المقابل، تذهب بعيداً في استفزاز أميركا عندما تكون متأكّدة من أنها لن تردّ.
هذا ما حصل بالفعل في عهد جيمي كارتر عندما احتجزت «الجمهوريّة الإسلاميّة» ديبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران 444 يوماً!
تحلم إيران منذ بداية عهد جو بايدن بالعودة إلى عهد باراك أوباما.
اكتشفت، متأخّرة، أنّ ذلك ليس ممكناً وذلك على الرغم من ميل الرئيس الأميركي نفسه إلى التساهل معها.
اكتشفت عملياً أنّ الأمر ليس بالسهولة التي تعتقدها وأنّ هناك تعقيدات داخليّة أميركيّة تقف عائقاً دون استسلام الإدارة للرغبات التي ابدتها «الجمهوريّة الإسلاميّة».
تقبل إيران بكلّ بساطة، العودة إلى التزام الاتفاق النووي في حال رفعت العقوبات عنها.
تريد الأموال التي يوفرّها رفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب، وهي عقوبات من الصعب رفعها.
تريد في الوقت ذاته استخدام الأموال من أجل دعم مشروعها التوسّعي الذي في أساسه ميليشيات مذهبيّة تعمل على تدمير دول عربيّة معيّنة من داخل كما يحصل في العراق ولبنان وسورية واليمن.
تمارس إيران في لبنان عمليّة تدمير ممنهجة لمؤسسات الدولة اللبنانية وللمجتمع اللبناني بكلّ طوائفه ومذاهبه.
ليس ما يشير إلى أن إدارة بايدن سترضخ لإيران، علماً أنّ هذه الإدارة تضمّ عناصر مستعدة لذلك، مثل روب مالي، المسؤول عن الملفّ الإيراني فيها.
من بين العوامل التي تحول دون الرضوخ الأميركي، التباينات داخل الحزب الديموقراطي نفسه الذي ينتمي اليه بايدن.
توجد في الكونغرس أكثريّة تضم معظم النواب والشيوخ الجمهوريين وقسماً من الديموقراطيين ترفض الاستسلام أمام إيران.
يوجد أيضاً اللوبي الإسرائيلي الذي يخشى أيّ تساهل أميركي مع إيران.
تتفادى حكومة نفتالي بينيت الدخول في مواجهة علنيّة مع الإدارة الاميركيّة، لكنّها تمارس ضغوطاً بوسائلها الخاص للحؤول دون استسلام أميركي أمام «الجمهوريّة الإسلاميّة».
في ضوء هذه المعطيات، تجد إيران نفسها مجبرة على إجراء تغيير أساسي في مقاربتها لموضوع المفاوضات النووية في فيينا.. يعني هذا التغيير تحولها إلى دولة نووية.
تكمن خطورة مثل هذا التطوّر في أنّ دول المنطقة تعي أنّ مثل هذا التحوّل لا يعني تهديداً مباشراً لها ووسيلة ابتزاز إضافيّة فحسب، بل يعني أيضاً دخول سباق تسلّح تبدو دول الخليج، إضافة إلى مصر وتركيا، في غنى عنه.
ستكون هناك، على الأرجح، عودة إلى المفاوضات الأميركيّة - الإيرانيّة غير المباشرة في فيينا، لكن هذه العودة ستعني قبل أيّ شيء آخر طرحاً للسؤال الأساسي: ماذا تريد إيران؟
على الرغم من كلّ الضعف والضياع اللذين يميّزان سياسة إدارة جو بايدن، لن تتمكّن «الجمهوريّة الإسلاميّة» من فرض شروطها.
يعود ذلك إلى وجود عوامل أخرى تلعب ضدّ المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة، وهو مشروع حقّق حتّى الآن الكثير.. حقّق دماراً في العراق وسورية ولبنان واليمن.
بات في الإمكان التساؤل إلى أين تسعى إيران إلى اخذ المنطقة في ضوء عجزها عن تحقيق أي عمل إيجابي في أي مكان منها.
من أبرز العوامل التي تشكل عائقاً في طريق المشروع التوسّعي الإيراني، الوضع الداخلي في «الجمهوريّة الإسلاميّة» التي يعاني معظم شعبها من الفقر والجوع والتخلّف.
لا يمرّ يوم الّا وتتكشف حقيقة فشل النظام الإيراني في أن يكون لديه نموذج ناجح قابل للتصدير.
الاستثناء الوحيد يتمثّل في الميليشيات المذهبيّة المنتشرة في كلّ أنحاء المنطقة.
تسعى «الجمهوريّة الإسلاميّة» إلى امتلاك سلاح نووي لحماية هذه الميليشيات المذهبيّة لا أكثر.
ما حدث في فيينا بين أميركا وإيران بحضور الأوروبيين، إضافة إلى روسيا والصين، هو عودة إلى المربّع الأوّل... أي إلى الدور الإيراني في المنطقة.
هل مسموح لإيران لعب دور المهيمن على الشرق الأوسط والخليج؟
ثمّة أسئلة متفرّعة تفرض نفسها في كلّ لحظة.
هذه الأسئلة مرتبطة بسلوك إيران خارج حدودها.
يشمل ذلك صواريخها البالستية وطائراتها المسيّرة التي تعتبر أخطر بكثير من امتلاكها للسلاح النووي...
لا تستطيع إيران استغباء العالم رغم التواطؤ الصيني والروسي مع «الجمهوريّة الاسلاميّة» في أحيان كثيرة.
العالم يعرف أين لبّ المشكلة.. يعرف العالم أنّ إيران تريد السلاح النووي لتغطية سلوكها خارج حدودها!
* نقلا عن صحيفة "الرأي" الكويتية