التحيتا.. جنة على الرمال

المخا تهامة - Wednesday 14 July 2021 الساعة 08:38 am
المخا، نيوزيمن، كتب/ عبدالسلام القيسي:

المار في الساحل الغربي أو المطلع على تشكيلة هذه البلاد أو القاطن في مدن البحر يعتقد أنه يعرف الساحل ولا يدرك عن المدن التي تنيف خلف الرمال وتختبئ بين الرمال المتحركة وكأنها تحرس كينونتها بالغبار الذي يدور حولهن، حول حيس وحول التحيتا وحول الدريهمي.

تضيع بين الخط الساحلي وتلف لساعات وتدور وأنت تبحث عن التحيتا فاسمها من التحت وتتوارد صور كثيرة في مخيلتك عن مدينة القش والفقر والحر والغبار ثم لا تلبث أن تتراءى أمامك مدينة واسعة تحيط بها الأشجار وتظللها الخضرة المناقضة للون الغبار ثم تصرخ: من أين ظهرت هذه المدينة، تباً، كيف تختبئ هكذا؟!

مدن خلف الرمال، مدن الروح والقضاض، فمن الجمعة إلى كل مدينة صغيرة في حيس وفي التحيتا وفي الدريهمي ثمة معلم شامخ بالقضاض، لون الدهر، وعراقة التاريخ، ثمة قباب يكونّ الصورة الأولى للمدينة ويرسمن خريطة العراقة بكامل جغرافية الساحل الغربي، الكبير.

هل حدث وتحول الفحم في الحقيقة إلى ذهب؟

لا، يتحول فقط في الحكاوي والأساطير القديمة وعالم الجنيات فارعات الطول والجمال، وفي الساحل الغربي يتحول الرمل إلى مدن والكثبان إلى مبان من قضاض.

في التحيتا القديمة، وصلنا وأرحنا في منزل الشيخ الأهيف، قعدنا على مقاعد محاكة يدويا ومرتفعة وقبالتي نافذة داخلية مصمتة بالجبس ككل الجدران التي في المبرز وفي النافذة كتب قديمة بلونها القديم الذي يبعث فيك أزمنة الجاحظ والسهرودي وكل حكاوي الشرق الجميل، الزاهي.

في مركز التحيتا، وفي بيت الشيخ، حيث المقيل، تشعر أنك في العصور الوسطى أو بازمنة القروسطية أو في مدن التاريخ المتناثرة بقلوب الجهات، تشم رائحة الحضارة، وتتعطر روحك بعطر الحكاوي والخرافات التي قرأتها في الكتب.

ثمة سحارة خشبية بنقشها الملفت بجدار المبرز الذي نسميه نحن (ديوان المقيل) وهذه السحارة خاصة بالكتب، كتب تاريخ البلاد في سحارة باقية من التاريخ القديم.

لكأن التحيتي يرفض مغادرة تاريخه، يرفض مناقضة الأصالة بهذه الحداثة المعاصرة فالكتب القديمة تلمها السحارة الخشبية القديمة بنحتها الجميل، والدقيق.

لوحات كثيرة في ديوان المقيل، ويسمى المجلس المرتفع الذي نقعد عليه بالمنبر ويحاك بمهارة التحيتي وعلى شاكلة الأسرة القديمة، لكن هذه المنابر تخص المقيلين بمجالس القات.

قبالتي بالحائط لوحة لفرس أبيض وشمال اللوحة كتبت أبيات المتنبي (الخيل والليل والبيداء تعرفني) وقادنا الكلام عن الخيل إلى الصهيل المنبعث من جنبات هذه المدينة.

التحيتا تربي الخيول

عشرات الخيول بل المئات بل كانت التحيتا قبل الحرب لا تخلو بيت من خيل والآن بسبب الحرب والمزارع المنهوبة خلف المدينة والتي ما زالت تحت يد الكهنوت هناك فقط حوالى عشرون فرساً في البلدة هذه، كأنني في حلم.

أراني عبدالرحمن أهيف صورة لفرسه التي ماتت قبل أيام وبقيت مهرتها التي ولدتها قريبا يتيمة الأم، بلا راعٍ، يحزن على فرسه بشكل كبير، وحزنت على نفسي أنني حلمت طيلة أعوامي في سنوات الطفولة بحصان وكنت سأختار الحصان على تاج من ذهب لو خيروني ذات يوم وانا أعيش دور الدراما التاريخية ثم أكتشف الآن أن الخيول بالتحيتا لدى كل الناس.

ونحن الذين طيلة الوقت نرى أنفسنا شعب الجبال والمدن الكبيرة قلب الجمهورية، والتاريخ والحضارة.

حدثتهم عني، وعن طفولتي، عقب كل حلقة من مسلسل طارق بن زياد وخالد بن الوليد وكيف كنا نترجم ما نشاهده من البطولة بالتلفزيونات إلى لعبة بصراديح البلاد ونضظر لركوب الحمير تيمنا بالخيل.

يكفي أن الحمار تشبه الخيل، فهي من ذات الفصيلة، وأتخيلني طارق بن زياد وأنا أمتطي الحمارة وبذات الوقت كان الطفل التحيتي بعد كل حلقة من حلقات الزير سالم يخرج إلى اصطبل الخيول ليمتطي فرسه.

إنها التحيتا، صدى اليمن القديم، وبقية الأثر المتقادم، وروح البحر المتواتر، هي جوهرة وسط كومات الغبار على الجميع أن ينقب عنها بفرشاة قلبه وأن يمسح صدرها المليئ بالغبار لتلمع مرة أخرى، في الصدارة.

شاهد رب البيت التحيتي انبهارنا بالمبرز ذي رائحة الفل فأخذنا إلى الدور الثاني حيث العراقة الحقيقية، كمن يقول لماذا تنبهرون من الصفر وأعلى منكم الألف، في رقمية الإبداع؟

وأنا أخرج من باب خلفي إلى فناء ما زال وسط الدار تصعد منه إلى الدور الثاني التقطت صورة للحيطان والبيوت المتلاصقة بلونهن الجبسي وبصفراوية القضاض الصامد رغم العالم، والنقوش المتناثرة في كل زاوية وحائط ومنزل.

ولجنا الدور الثاني، ديوان ذا حجم كامل، كأنني في الأندلس بعهد الناصر وبملوكيته الزهراء.

جبس، الاسمنت لا وجود له، النورة هي الاسمنت التحيتي بلا منازع، جدران منحوتة، ونقوش، وكأن الديوان قطعة أنتيكا من قلاع السهول الأوروبية وتتناثر لوحات بشكل متناسق، على الحائط، بألوان تشير إلى تمازج هندي وتماوجات شرق الكرة بالتحيتا وثمة لوحة لتاج محل بصدر المكان تشرح عمق الصلة بين التحيتا والهند الشرقية والصلة بين ميناء الحيمة الذي يتبع التحيتا وبين ميناء بومباي.

تحف، بل تحفة، صور الزعيم عبدالناصر، لوحة علي عبدالله صالح، كل شيء هناك يذكرك بالعراقة، عراقة التحيتا 

البلاد ذات القضاض والوجه الحسن، الجنة.

والمزيد من التحيتا:

تحايا مصورة- جيران البحر والبر: وجُــوهٌ تهامية من التحيتا

قصة من يوميات الحصار الحوثي: طاف نصف اليمن ليصل من التحيتا إلى التحيتا!

تحقيق مصوَّر| "تلال القمامة" خطر يتهدد السكان والبيئة بمدينة التحيتا

من المحاريق والبلاكمة والزبارقة إلى دبي وأبو ظبي والشارقة.. حَــواري التُـحَـيـتَـا (صور)

على التماس وتحت القصف تسامر الفن والفل: أعــراس التُـحَـيـتَـا (صـور)

جلسة نقاشية في التحيتا أدارها نيوزيمن: شواغل السكان والنازحين وشواغر الإدارة المحلية والتنفيذية (صور)

طلاب التحيتا يؤدون امتحانات الشهادتين (تعويضاً عن الفائت) في نهاية عام بلا دراسة (تفاصيل)