مروان الجوبعي يكتب يوم كانت قريتنا هي كل العالم

المخا تهامة - Sunday 27 January 2019 الساعة 02:13 pm
عدن، نيوزيمن:

وقف مروان يومها هذه الوقفة قائلاً: "يا عم صورني" لتصبح الصورة من بين مئات الصور في ألبوم الذكريات هي نافذتي إلى الطفولة التي عشتها في أحضان جبال متوحّشة وطبيعة قاسية، كما تبدو في الصورة تماماً، ولكنَّي كنتُ سعيداً ومستمتعاً بالحياة، كما يظهر ابن أخي في الصورة وأشعرُ بالرهبة والخوف حين أغادرها.

مازلتُ أتذكرني طفلاً ألعب بالشارع حين تجمّعت السحب لتغطّي الجبال البعيدة عن قريتنا فغابت عن أنظارنا ولم نعد نرى شيئاً منها، آنذاك أدهشني المنظر الغريب، فسألت أحد الكبار مستغرباً، أين هي؟ أعني تلك الجبال التي لم أرها أمامي ككل مرة، يجيبني: "قامت القيامة عليها" وضحك ساخراً من غباء سؤالي. لم أكترث لسخريته منّي ولم أكترث لأمر وجودها كذلك..

عدتُ لأستمتع باللعب من جديد، وهناك شيء بداخلي يستعصي على النطق يقول "مازلتُ هنا ومازالت هذه الأرض تحت أقدامي وفي محيطي القريب تمنحني فرصة لألعب وأستمتع، إذاً لتذهب تلك الجبال إلى الجحيم، هذا هو عالمي، لا علاقة ليّ بأيّ أمر آخر"، أستمر باللعب إلى أن يسرق الليل منّي يومي لأعود إلى المنزل بخاطر مكسور لماذا لا يطول النهار أكثر مما هو عليه؟ لماذا وجد الليل أصلاً؟ أسئلة كثيرة من هذا القبيل تتوارد، أسئلة وجودية أخرى مدفونة بأعماقي، تتوارد وأنا أفكر بهذا الأمر، لأن النهار كان يعني لي الحياة والليل هو الموت لا سواه، لا يُغريني مشاهدة "الكابتن ماجد" ولا مغامرات "عدنان ولينا" لا أشعر بالمتعة معها أبداً، أحب أن أكون لاعباً لا متفرجاً، أحب أن أصنع السعادة والمتعة لنفسي لا أن يمنحني إياها الآخر.. لم تكن شاشة التلفاز لمسلسلات الكرتون فقط، بل هي أيضا نافذتي إلى عالم مختلف لا أعرف عنه شيئاً ولكنَّي ألمسه من خلال أطفال بسنّي يتجوّلون بالحدائق والمنتزهات والملاهي، يلعبون ويمرحون ويحملون أو يركبون ألعابا عجيبة وغريبة.. وأنا أشاهدهم كنتُ ذلك الطفل الصغير الذي يتوق لهذه الأشياء المغرية، ولكنّي أفكر وأبحث عن حلول، لم أبك ولم أطلب من أبي أن يأخذني إليها، بل أنهض اليوم التالي أكثر إصرارا، أصنع لنفسي لعبة جديدة وأعيش متعتين في آن واحد، متعة الإنجاز ومتعة اللعب واللهو فيها.

كانت ألعابنا مجرد أشياء بسيطة نصنعها بأنفسنا تشبهنا تماماً وكنّا سعداء لدرجة أنّي حين يغادرنا أحد رفاق الطفولة إلى المدينة أشعرُ بالحزن وأسأل نفسي كيف له أن يكون سعيداً بعد مغادرته لنا؟ كانت فكرة الخروج من القرية تعني الانتقال من السعادة إلى التعاسة، والحياة في نظري حينها هي السعادة وما دونها نوع من أنواع الموت، حتى وإن كنتَ حيا وأنتَ لست سعيداً فهذا يعني أنك ميَّت.. هكذا كنت أنظر إليها بعين الطفل أشعرُ بأن الفراق عنها هو يوم انتزاع الروح عن الجسد بل هو اقتلاعك من جذورك كما تُقْتَلع الأشجار من مواطنها الأصلية لتُغرس في أماكن أخرى فتنتهي عندما لا تجد بيئة مناسبة لها وأتذكر تماماً شجرة "الصنوبر" التي جلبها أبي من السوق ليغرسها قرب منزلنا اعتنيت بها كثيراً لكنّها كانت تبدو حزينة فذبلت وتلاشت من بين أيدينا. هكذا يُخيَّل لي إن غادرنا أحد رفاقي أحزن من أجله!

كنتُ طفلاً ولكنّي كبرتُ لأصير شاباً مغامرا، غيرتُ كثيراً من قناعات الطفولة فغادرتها مرغماً عندما أدركتُ أن الحياة تكبر وتّتسع وأن عليَّ مواجهتها بأشكال وطرق أخرى عندما وجدتُ أنّه لم يعد يجدي نفعاً ما أصنعه بأدوات بدائية.. عندما وجدتُ أنّ الأشياء تفقد معانيها وجدتُ نفسي مضطراً أغادرها كرجل دفع به اليأس إلى الانتحار، وها أنا أقلب ألبوم الذكريات لأجد أشياء كثيرة في حياتي بقيت عبارة عن صور تؤثث الذاكرة أو صور وضعت على جدار منزلنا أو ألبوم يرافقني في كل مكان، وها أنا ذاك المنتحر أنظر إليها من داخل هذه المقبرة الموحشة التي شيعت إليها!

* الصورة لابن أخي مروان ريدان منصر