ورقة اقتصادية: التجارة الإلكترونية في اليمن وسيلة بقاء وفرصة للنجاة من الحرب
السياسية - منذ ساعتان و 23 دقيقة
صنعاء، نيوزيمن، خاص:
في غرفة صغيرة بأحد أحياء صنعاء القديمة، تفترش ريم أدوات بسيطة لتحضير الحلويات، وتلتقط صورًا بزاوية هاتفها المتصدّع لتعرض منتجاتها على صفحتها في "فيسبوك". بالنسبة لها، لم يعد الإنترنت نافذة للتسلية أو التواصل فقط، بل شريان حياةٍ وسط اقتصادٍ منهك وحربٍ لا تنتهي.
ورقة اقتصادية أعدتها الباحثة أيلين جونغا بعنوان "تعزيز فرص نمو التجارة الإلكترونية في اليمن"، ونشرت ضمن مبادرة إعادة تصور اقتصاد اليمن الممولة من الاتحاد الأوروبي، كشفت عن وجود آلاف اليمنيين الذين لجأوا إلى التحول الرقمي كوسيلة بقاء. فمن بيوتهم، وفي ظل انقطاع الكهرباء وضعف الإنترنت، ينشئون متاجر إلكترونية صغيرة أو مشاريع منزلية رقمية، يواجهون بها الفقر والعزلة الاقتصادية، ويبتكرون رغم غياب الدعم والبيئة المؤسسية.
اقتصاد رقمي في بيئة متهالكة
تُظهر الورقة البحثية صورة قاتمة لواقع البنية التحتية الرقمية في اليمن، إذ تصفها بأنها من بين الأسوأ عالميًا. فحتى عام 2024، لم تتجاوز نسبة مستخدمي الإنترنت 17.7% من السكان، مقارنة بمتوسط إقليمي يبلغ 65%. وتشير الورقة إلى أن انقطاعات الكهرباء المتكررة، والاعتماد على تجهيزات اتصالات قديمة، جعلت الوصول إلى الإنترنت تحديًا يوميًا لكل من الشركات والمستهلكين.
وتوضح الباحثة أن الاتصال الموثوق والمتاح بالإنترنت شرطٌ أساسي لربط المشترين بالبائعين وتوسيع دائرة التجارة الإلكترونية، لكن الحرب دمّرت مساحات واسعة من شبكات النقل والبنية التحتية، ما جعل حتى عمليات التوصيل العادية محفوفة بالمخاطر والتأخير.
ورغم هذا الواقع، يبرز دخول خدمة “ستارلينك” الفضائية في أغسطس الماضي كأحد التطورات الإيجابية القليلة. إذ دشّنت المؤسسة العامة للاتصالات في عدن بيع أجهزة الخدمة وباقات الإنترنت الفضائي لأول مرة، في خطوة تهدف إلى توسيع التغطية وتحسين سرعة الاتصال.
لكن ميليشيا الحوثي في صنعاء سارعت إلى حظر استخدام أجهزة ستارلينك في مناطق سيطرتها، بزعم أنها تشكل "تهديدًا للأمن الوطني"، ما أجهض آمال آلاف المستخدمين في كسر العزلة الرقمية.
فرص واعدة تُقيدها الانقسامات
ترى الباحثة جونغا أن قطاع التجارة الإلكترونية يمكن أن يشكّل قاطرة للنمو الاقتصادي والشمول المالي في اليمن، خاصة للنساء وسكان الريف الذين حُرموا من الوصول إلى فرص العمل والخدمات. لكنها تشير إلى أن هذا القطاع يواجه عقبات معقدة: ضعف الاتصال بالإنترنت، محدودية أنظمة الدفع الرقمية، غياب التشريعات المنظمة، والانقسام المالي والإداري بين صنعاء وعدن.
وتعتمد الغالبية الساحقة من اليمنيين على الدفع النقدي عند التسليم، إذ لا تزال الثقة بالمدفوعات الإلكترونية محدودة للغاية بسبب غياب القوانين الرقابية وضعف البنوك. كما أن انقسام البنك المركزي بين عدن وصنعاء فاقم هشاشة النظام المالي، وخلق بيئة خصبة للاحتيال وتعقّد التحويلات الداخلية.
وتشير الورقة إلى أن الشركات الناشئة العاملة في هذا المجال مثل بازاري ويمنا شوب ويمن ديليفري تواجه تحديات يومية في النقل والتخزين والتوصيل بسبب غياب نظام لوجستي وطني.
يقول أحد مسؤولي شركة "بازاري" في الورقة إن "عملية التسليم في اليمن ليست خدمة، بل مغامرة يومية"، مشيرًا إلى أن غياب نظام عنونة واضح، وسوء الطرق، وارتفاع أسعار الوقود، يجعل من كل صفقة إلكترونية معركة لوجستية حقيقية.
جيل رقمي يحاول النهوض
منذ اندلاع الحرب عام 2014 وما تلاها من توسّع عسكري في 2015، تسببت المواجهات في تدمير واسع للبنية التحتية وارتفاع تكاليف التشغيل، ما أفقد المواطنين ثقتهم بالأنظمة الرقمية التي تُستخدم أحيانًا كأدوات مراقبة أو تضليل. كما أدى النزوح الواسع للسكان إلى تعقيد عمل شركات التوصيل، إذ تتغير أماكن العملاء باستمرار، بينما تعاني السوق المحلية من تراجع القدرة الشرائية نتيجة توقف الرواتب، وانخفاض قيمة العملة، وارتفاع الأسعار، والانقسام النقدي بين صنعاء وعدن.
رغم هذه العوائق، تشير الورقة إلى أن جيل الشباب اليمني – الذي تتزايد نسبة امتلاكه للهواتف الذكية – يمثل الركيزة الأساسية لاقتصاد رقمي جديد. فالشباب يمتلكون الحماس والمرونة التقنية، لكنهم يفتقرون إلى التدريب والتمويل، في ظل غياب سياسات وطنية لدعم الابتكار أو ريادة الأعمال الرقمية.
وتوضح الورقة أن طرفي الصراع في اليمن يتعاملان مع قطاع الاتصالات كاحتكار سياسي واقتصادي، ما أدى إلى غياب المنافسة وتعطيل الترخيص لمزودي خدمات جدد أو إدخال تقنيات حديثة. وتشير إلى أن ترخيص خدمات الإنترنت والتقنيات الحديثة أصبح قرارًا سياسيًا بحتًا، تُحدد مصيره الولاءات والانتماءات، لا المعايير التقنية أو الاقتصادية.
وأدى هذا الوضع إلى استمرار الانقطاع شبه الكامل لشبكات الجيل الرابع والخامس في معظم المحافظات، مما جعل التجارة الإلكترونية حكرًا على المدن الكبرى مثل صنعاء وعدن وتعز وإب، حيث توجد تغطية جزئية للإنترنت.
تحديات لوجستية
تواجه شركات التجارة الإلكترونية في اليمن تحديات كبيرة بسبب تدهور شبكة الطرق وغياب نظام بريد رسمي، ما يجعل التوصيل في المناطق الريفية شبه مستحيل. كما أن تراجع دخل الأسر وانخفاض القوة الشرائية حدّا من حجم الطلب المحلي. فقد أدى الصراع إلى توقف دفع رواتب معظم موظفي القطاع العام، وارتفاع أسعار السلع المستوردة، ما جعل التجارة الإلكترونية تعتمد على شريحة محدودة من المستهلكين في المدن.
ورغم ذلك، استطاعت بعض المشاريع الصغيرة النجاة عبر التركيز على المنتجات المحلية الأقل تكلفة، وتبنّي نماذج عمل مرنة، مثل البيع عبر تطبيقات المراسلة بدلاً من المنصات الإلكترونية الرسمية.
دعت الورقة البنك المركزي في عدن إلى تحسين الحوكمة، وتنظيم المعاملات الإلكترونية، وإصدار تشريعات تدعم الشفافية وحماية المستهلكين. كما طالبت الحكومة والمنظمات الدولية بالاستثمار في التعليم الرقمي، ودعم الأمن السيبراني، وتمويل مشاريع البنية التحتية للاتصالات.
وحثّت الورقة المانحين الدوليين على دعم مشاريع الأقمار الصناعية مثل ستارلينك، لضمان وصول الإنترنت إلى المناطق الريفية، ودعت إلى إطلاق حملات توعية رقمية لتعزيز الثقة في الشراء عبر الإنترنت. كما شددت على ضرورة أن تدمج الحكومة البعد البيئي في أي استثمار رقمي، بحيث تكون مراكز البيانات واستهلاك الطاقة ضمن معايير الاستدامة.
تحليل وتداعيات مستقبلية
يرى خبراء التنمية أن تعزيز قطاع التجارة الإلكترونية يمكن أن يساهم في رفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5% خلال خمس سنوات، ويوفر عشرات آلاف فرص العمل الجديدة في الاقتصاد غير الرسمي، خصوصاً للشباب والنساء. لكنهم يؤكدون أن هذه الإمكانات لن تتحقق دون توحيد الإشراف المالي، وتحرير قطاع الاتصالات من السيطرة السياسية، وضمان بيئة قانونية آمنة للاستثمار.
وتخلص الباحثة أيلين جونغا إلى أن التجارة الإلكترونية في اليمن ليست ترفًا عصريًا، بل ضرورة وجودية لبلدٍ يبحث عن طريقٍ جديد للبقاء.
"في بيئة محاصرة بالانقسامات، قد يكون التحول الرقمي هو المسار الوحيد الذي يربط اليمن بالعالم"، تقول جونغا، مضيفة أن "الاقتصاد الرقمي يمكن أن يكون الجسر نحو التنمية والسلام إذا ما استثمرت الأطراف في المعرفة بدلاً من الصراع".
قصة ريم لم تعد مجرد تجربة فردية، بل عنوان لمرحلة جديدة من الإبداع وسط الركام. ففي الوقت الذي تتهاوى فيه البنى المادية، تتشكل بنى رقمية بديلة، تقودها مبادرات شابة ونساء مكافحات، يرسمْن ملامح اقتصاد جديد يولد من رحم الأزمات.
في اليمن، حيث تتنازع الحرب على الأرض، ثمة حرب أخرى تدور في الفضاء الرقمي — حرب من أجل الأمل، والابتكار، والقدرة على الصمود. ومن خلف شاشة صغيرة، قد تبدأ ملامح اقتصاد اليمن القادم: اقتصاد لا يُبنى بالحجارة، بل بالفكرة، والاتصال، والإصرار على الحياة.
>
