د. صادق القاضي

د. صادق القاضي

تابعنى على

الحوثي والإمام أحمد.. في ميزان "نشوان الحميري".!

Friday 02 July 2021 الساعة 10:18 am

على عكس المفترض في الفروق الحضارية بين تجربتين سياسيتين من نوع واحد، في مكان واحد، في زمنين مختلفين: تبدو "التجربة الحوثية" -حسب تجلياتها الخطابية والعملية، وشعاراتها وشعائرها الرمزية. حتى اليوم على الأقل- أكثر تخلفاً من "التجربة المتوكلية". في النصف الأول من القرن الماضي.!

تختلف التجربتان من حيث "الكم" المتعلق بدرجة الأدلجة، ومدى الاتكاء على المعايير الفئوية في الخطابات الفكرية والممارسات والتوجهات الإدارية والسياسية، وانفتاحهما أو انغلاقهما على البعد الوطني، والهوية اليمنية.. كما في موقفهما كلّ على حدة. من شخص ومؤلفات الرمز اليمني الكبير والشهير: "نشوان بن سعيد الحميري" (ت: 573 هـ).

"نشوان الحميري" أحد أهم وأشهر أعلام ورموز التراث اليمني. أديب ولغوي ومؤلف وفقيه وعالم ومثقف موسوعي، كتب أشعارا ما زالت شهيرة ومتداولة على مستوى اليمن، مثل "القصيدة الحميرية"، وألف كتباً ما زالت شهيرة ومهمة على مستوى العالم العربي، مثل معجم "شمس العلوم، ودواء كلام العرب من الكلوم".

سياسياً وأيديولوجياً: كان نشوان خصما عتيداً للأئمة والإمامة والهاشمية السياسية والسلالية، وله في ذلك رسائل ونقائض مع الأئمة في عصره، وبقدر ما كان الرجل يعتز بقحطانيته ويفاخر بها. كان يتمادى أحيانا في التعصب لها، وصولاً إلى تفضيل قومه ليس على قريش وبني هاشم فحسب، بل على البشر أجمعين، باعتبارهم جُبلوا من مادة أرقى من التي جُبل منها بقية البشر، في مثل قوله:

فافخر بقحطانٍ على كلّ الورى .. فالناس من طينٍ وهم من جوهرِ!

يمكن فهم أن هذا التطرف كان رد فعل على نزعة عنصرية مقابلة في عهده من قبل الهاشميين، وهي ظاهرة عنصرية ما تزال حاصلة وفاعلة في اليمن، حتى اليوم، ويمكن اغتفارها لبعض الصغار في الطرفين، ما لم تصدر عن الكبار كسياسة منهجية واستراتيجية رسمية معبرة عن النظام الحاكم.

من هنا تبرز تفاهة ما يرفعه بعض المناوئيين للحوثيين "كالاقيال" من نزعة سلالية مقابلة، كما تبرز خطورة النزعة العنصرية للايديولوجية الحوثية، بشكل أكبر ورسمي، ويبدو أن هذه النزعة كانت أخف في عهد الأئمة المتوكليين الذين تعاملوا مع تراث "نشوان". خاصة كتابه "شمس العلوم" بالكثير من الاهتمام والاحترام والتقدير.

قد يبعث ذلك الاهتمام الإمامي على الدهشة، نظراً للحساسية العالية لبعض المواد التي يتضمنها هذا المعجم بجانب مادته اللغوية والموسوعية الهائلة: الآراء الفقهية السياسية لمؤلفه، وفكره الثوري السياسي، الأشياء التي تتعارض بشكل مطلق مع مفردات نظرية الإمامة الزيدية، وولاية آل البيت!

ومع ذلك. تغاضى أئمة المملكة المتوكلية عن هذه الأشياء الجانبية، لصالح الأهمية الجوهرية العالية لهذا الكتاب، فوجهوا بتحقيقه وطباعته ونشره، على حساب الدولة*.!

في المقابل قام الحوثيون مؤخراً. بتغيير اسم مدرسة "نشوان الحميري" في صنعاء. رغم إدراكهم أهمية وحساسية هذا الاسم في الوعي والوجدان اليمني التراثي والمعاصر، وأهميته وشهرته العلمية في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة.

في الوضع الطبيعي. لا أهمية لتغيير اسم مدرسة أو شارع أو جامع.. المشكلة فقط عندما يتم هذا التغيير، وفق حسابات سياسية وفكرية لها تجيزاتها العنصرية، وهذا ما يبرهن عليه الحوثيون. عملياً كل يوم، عبر استهداف الرموز اليمنية التاريخية، بالنيل منها أدبياً، وتغيير أسماء المعالم والأماكن والشوارع والمساجد والمدارس التي تحمل أسماءها. ضمن توجه عام لمحو الهوية والذاكرة اليمنية.!

بالمناسبة: "نشوان الحميري" "حوثي" باعتبار المنطقة التي ولد وعاش ودفن فيها وهي نفس المنطقة التي ينسب إليها "الحوثيون، وقد ثار الرجل هناك على الأئمة، وتملك لبعض الوقت على منطقة "صبر"، التي ينسبه بعضهم إليها، وهي منطقة تقع في صعدة، وقد التبست على ياقوت الحموي في (معجم البلدان) مع جبل صبر" في تعز، فتوهم ياقوت أن نشوان ثار وحكم في تعز!

باستثناء المكان. لا شيء  يجمع بين هذا الرجل وبين الحوثيين الذين يحاولون اليوم الانتقام منه ومحو اسمه، عبر عملية تنطوي على ثأر تاريخي عمره حوالي ألف عام، وتستند على أبعاد طائفية وسلالية وأيديولوجية، وأحقاد سياسية غابرة ومتخثرة.!

هذا الأمر يعكس من زاويته، مدى التردي الفكري والسياسي، للجماعة الحوثية، ويتضح أكثر بالمقارنة مع تعامل الإمامين يحيى وابنه أحمد، مع تراث نشوان كعلامة إيجابية على العقلية المنفتحة لهما، واهتمامهما الكبير بذخائر التراث اليمني، بعيدا عن الاعتبارات الأيديولوجية والفكرية.

ختاماً: للأنظمة الإمامية، بمختلف أشكالها عاهاتها وإعاقاتها المزمنة القاتلة، لكن. بالمقارنة أعلاه: كان الأئمة المتوكليون، خصوما عقلاء كبارا لا تنقصهم الشجاعة والثقة بالنفس، كما كانوا رجال دولة يراعون وعي ومشاعر الأغلبية الساحقة من رعاياهم. هذه الأغلبية التي كانت وما تزال مغايرة لهم من حيث السلالة والمذهب والوعي الثقافي والديني والاجتماعي والسياسي.

..

*تم تحقيق وطباعة ونشر كتاب"شمس العلوم، ودواء كلام العرب من الكلوم". لنشوان الحميري. لأول مرة في العهد الإمامي، حققه الأستاذ: "عبد الله الجرافي"، بتكليف من الإمام يحيى حميد الدين، وطُبع في "دار إحياء الكتب المصرية". القاهرة، في خمسينيات القرن الماضي، مصدّرا بإهداء للإمام أحمد الذي طُبع الكتاب في عهده.

كانت هذه الطبعة الملكية رديئة يعتريها الكثير من الأخطاء وأوجه القصور، وهي أشياء لم يتم تصحيحها إلا في وقت متأخر من العهد الجمهوري، فأُعيد تحقيق الكتاب برعاية الرئيس السابق صالح. على أيدي مجموعة من كبار الأساتذة المؤرخين، منهم مطهر الإرياني، ويوسف محمد عبدالله، وطبع في دار الفكر المعاصر. بيروت، عام "1999م" مصدّرا بإهداء لرئيس الجمهورية هذه المرة.!