حسين الوادعي

حسين الوادعي

تابعنى على

نحو علمانية توافقية باليمن لتفكك ألغاماً مزروعة منذ مئات السنين

Saturday 10 April 2021 الساعة 05:02 pm

هل نستطيع القول إن الواقع اليمني بتعقيداته وتشظيه لا ينفع معه إلا أنواع معينة من السياسات التوافقية التي لا يسيطر فيها فصيل معين على السلطة، حتى ولو كان قادرًا على ذلك سلمًا أو حربًا؟ 

في مجال الديمقراطية مثلًا، يبدو الدرس المستفاد من صعود التجربة الديمقراطية اليمنية وسقوطها (بين 1990 و2011)، هو أن الديمقراطية الانتخابية لم تكن الشكل الأمثل لليمن بكل ما يمور به من قوى تقليدية وأمية وأسلحة وقوى سياسية لا تؤمن بالتداول السلمي للسلطة، حتى ولو عبر صندوق الانتخابات.

 ويبدو أن الديمقراطية التوافقية التي تمثل فيها كل القوى السياسية في الحكومة بغض النظر عن عدد الأصوات، مع وجود هيئات رقابية قوية، هي الأفضل بالنسبة للواقع اليمني.

 الواقع الذي يقول إن اليمن كان دائمًا ساحة للصراع بين قوى متقاربة في القوة والتأثير الاجتماعي، وأن سيطرة قوة واحدة، حتى عن طريق صناديق الاقتراع، سيؤدي إلى ديمقراطية ملغومة تقود عاجلًا أو آجلًا إلى الانفجار، وهذا هو ما حدث فعلا في 2011، الذي كان أقرب إلى انشقاق داخلي داخل النظام، نزل نصفه إلى الساحات ليرتدي ثوب المعارضة والثورة، وظل النصف الثاني في الحكم يدافع عن الشرعية والنظام.

وأنا على نفس القدر من الإيمان بحاجة اليمن إلى علمانية تفكك الألغام الدينية والمذهبية والطائفية المزروعة منذ مئات السنين.

 لكنني أيضًا أرى أنها لا يمكن أن تكون إلا علمانية توافقية، تعتمد على توافق الجميع، بما في ذلك الأحزاب والحركات الدينية نفسها، من إخوان وسلفيين وحوثيين، الذين سيجدون أنهم يستطيعون أن يعيشوا سويًّا في ظل نظام علماني، وأنهم سيسيرون لا محالة إلى طريق الحرب والإقصاء، إن لم يكن طريق الإبادة، في ظل نظام يريد تحكيم الشريعة. 

لا شك أن الطريق إلى العلمانية التوافقية لن يمر دون التنازل عن بعض شروطها، وهذا طبيعي ومقبول كخطوة مرحلية ما دام لن يمس بالمبدأ الأسمى للعلمانية، وهو منع أي قوة من استخدام الدين كسلاح للصراع السياسي، أو للحكم السياسي، أو ادعاء احتكارها للفهم الصحيح للدين.

الظاهرة التاريخية الثانية ليمننة الإسلام هي تفضيل اليمنيين للكثير من جوانب القانون والعرف القبلي التقليدي على حساب الفقه الإسلامي والشريعة.

 وهذا التفضيل كان له إيجابيات وسلبيات، لكنه بذرة أخرى لنزعة علمانية شعبية تختار ما تراه الأفضل لحياتها اليومية.

وأظن، وبعض الظن ليس إثمًا، أن في تاريخنا وتكويننا الاجتماعي بذورًا علمانية يمكن البناء عليها. 

من بين هذه البذور أن التدين في المجتمع اليمني القديم كان تدينًا بسيطًا يميل إلى العقلانية وإعطاء الأولوية للأمور العملية على حساب الأمور النظرية والعقيدية.

 والدليل على ذلك أن المنشآت الكبرى في اليمن القديم كانت منشآت مدنية (سدود، مدرجات، قلاع)، عكس كثير من الحضارات الشرقية القديمة، كما أن النقوش اليمنية يغلب عليها طابع التوثيق للمعاملات التجارية والأحداث الدنيوية اليومية، وليس توثيق المناسبات والنصوص المقدسة. 

ينطبق نموذج التدين البسيط والعملي على اليمنيين أثناء حضارتهم القديمة، ينطبق على اليمن الإسلامي والحديث والمعاصر. 

فقد اعتنق اليمنيون الإسلام بالحد الأدنى من القتال عندما توسموا فيه حركة قد تخرجهم من واقع التخلف والتشرذم الذي وقعوا فيه بعد انهيار حضارتهم القديمة، ثم ما لبثوا أن تمردوا عليه سريعًا عندما شاهدوه يتحول إلى الجباية والسيطرة.

ومن يشاهد تحولات المذاهب في اليمن سيتفق معي أن ما حدث لم يكن أسلمة لليمن بقدر ما كان يمننة للإسلام.

 تجلت يمننة الإسلام في أكثر من ظاهرة تاريخية أولها "النزعة القحطانية". والنزعة القحطانية لم تظهر في أي بلد عربي آخر غير اليمن، وقد استطاعت مواجهة ورفض إحدى المقدسات في ذلك الزمن، وهي "حصر الخلافة في قريش".

 كانت "قرشية الخلافة" قد تحولت مع تراكمات الصراع الأموي والعباسي، والصراع العربي الشعوبي، إلى مقدس، تم اختراع عشرات الأحاديث لتحويله إلى عقيدة. وفعلًا رضخت كل المذاهب الإسلامية له، وكان التيار الوحيد (من داخل الإسلام) الذي جرؤ على التحدي هو القحطانية، التي لم ترفض قرشية الخلافة فقط، بل إنها اتجهت لتفضيل اليمنيين على القرشيين لأسبقيتهم في اعتناق الإسلام وتفاخرهم بأنهم آباء حضارة عظيمة.

 كانت القحطانية حركة أرادت تحرير السلطة من "المركز المقدس" وتحويلها إلى حق لمن يملك القدرة بغض النظر عن عرقه ونسبه، لولا أن فكرة فصل الدين عن السياسة لم تكن قد ظهرت بعد لكانت القحطانية أول علمانية سياسية في تاريخ العرب.

الظاهرة التاريخية الثانية ليمننة الإسلام هي تفضيل اليمنيين للكثير من جوانب القانون والعرف القبلي التقليدي على حساب الفقه الإسلامي والشريعة. 

وهذا التفضيل كان له إيجابيات وسلبيات، لكنه بذرة أخرى لنزعة علمانية شعبية تختار ما تراه الأفضل لحياتها اليومية، بغض النظر عن مصدره إلهيًّا كان أو بشريًّا.

من بين إيجابيات هذه النزعة أن اليمني ظل محافظًا على عاداته وتقاليده المتسامحة فيما يتعلق بمكانة المرأة وحريتها والاختلاط بين الجنسين في كافة مظاهر الحياة، ولم تتراجع ملامح الانفتاح الاجتماعي إلا بعد دخوله تحت التأثير الثقافي للطفرة النفطية والمد الوهابي. 

وظل يتعامل مع قضايا السرقة والقتل والشرف بالعرف القبلي وأحكامه المخففة، مفضلًا إياها على الأحكام القاسية والصارمة للشريعة. 

لكن كان لهذه النزعة بعض الجوانب السلبية، مثل حرمان المرأة من الميراث. وقد ظل الصراع بين القانون القبلي والشريعة الإسلامية محتدمًا لأكثر من ألف سنة.

 فكان الأئمة والحكام الدينيون يتهمون القبائل بأنها تحكم بـ"الطاغوت"، قاصدة بذلك العرف القبلي وترفض أحكام الشريعة. 

غير أن ما كان يسميه الأئمة "الطاغوت" كان نتاجًا لتفاعل الإنسان اليمني مع أرضه وبيئته وبحثه عن التشريعات الأكثر ملاءمة لواقعه الصعب.

لقد فقد اليمني كثيرًا من بذور العلمنة والواقعية في تفكيره، بسبب التعبئة التي قادتها حركات الإسلام السياسي الحديثة (إخوان، سلفيون، حوثيون). 

لكن تدين اليمني ظل ذلك التدين البسيط الواقعي الذي لا يتضخم ليبتلع جميع جوانب حياته، بل يظل مكونًا مهمًّا من ضمن مكونات كثيرة.

لكن حركة الإخوان المسلمين نفسها مختلفة، في جوانب كثيرة، عن الحركة الأم في مصر. 

وهم نموذج آخر لنماذج يمننة الإسلام وعلمنته في بعض الجوانب. 

فإخوان اليمن منذ كانوا "الجبهة الإسلامية" في القرن الماضي وهم جزء من السلطة، وظلوا جزءًا من السلطة ومتحالفين معها وسيفًا لها حتى لحظة الافتراق في 2011. 

ولم يغادر إخوان اليمن مربع السلطة بعد ذلك، بل انتقلوا ليكونوا اليد اليمنى والسوط للسلطة الجديدة المتمثلة في الرئيس هادي وحكومته. 

والنموذج الإسلامي لإخوان اليمن هو خليط من القيم القبلية والأصولية الدينية.

 ولا تختلف الحوثية اليوم كثيرًا عن ذلك، فهي خليط من الخمينية والإخوانية والقيم القبلية والتقليدية اليمنية في براغماتية عالية المستوى، قد تصل أحيانًا إلى مرتبة السياسة العملية المتخففة من الأخلاق.

ما أريد قوله إن لدى اليمنيين نزوعًا نحو علمنة الدين وإعلاء الواقع وأهميته على النص الديني، رغم التحولات الأخيرة التي قذفت به في شمولية طروحات الصحوة وفكر الإسلام السياسي غير المتسامح. 

ترددت في الدراسات الدولية في الآونة الأخيرة فكرة أن الحرب في اليمن لن تنتهي عن طريق السلام، وإنما عن طريق "التوافقية"، أي الوصول إلى صيغة توافقية لإنهاء الحرب تضمن مصالح أطراف الصراع، مع بقاء جذور الصراع ليتم معالجتها على المدى الطويل.

إن العملية السلمية التوافقية المطروحة حاليًّا هي جزء من الوعي بضرورة "التوافق" لهذا البلد المنكوب بالصراعات. 

ولكي تنجح العملية السياسية التوافقية، لا بد من الولوج إلى ديمقراطية توافقية في يمن ما بعد الحرب.

 لكن النجاح في تأسيس ديمقراطية توافقية يقتضي توافر شرط مسبق، هو اتفاق اليمنيين على علمانية توافقية تنزع فتائل التوتر الطائفي الذي زرع منذ قدوم الهادي يحيى بن الحسين وانقسام اليمن إلى "كاثوليك-شافيعة" و"أرثوذكس-زيدية" من الناحية المذهبية، ثم انقسامهم إلى قحطانيين وعدنانيين من الناحية الاجتماعية.

ومن أجل تفكيك هذا التوتر المذهبي الاجتماعي المزدوج، لا بد من نزع أساسه الديني المتمثل في الحكم الديني المذهبي. 

وهذا لن يكون إلا بالتوافق على علمانية تنزع فتيل الألف عام من التوتر الطائفي الاجتماعي. 

سيكون للعلمانية التوافقية حدٌّ أقصى وحد أدنى. 

والحد الأدنى هو أقل المعايير الممكنة لتحقيق علمانية حقيقية تفصل الدين عن السياسة، وتحرر المصحف من السيف. 

وهذا الحد الأدنى لا ينفي أن يظل الحد الأعلى حلمًا ومطلبًا على المدى الطويل عندما يسمح التطور السياسي والقانوني للمجتمع اليمني بعلمانية كاملة، والانتقال بعد ذلك من الديمقراطية التوافقية إلى الديمقراطية التنافسية والصراع السياسي الذي لا يؤدي للاحتراب الأهلي.

*نقلا عن موقع " خيوط"