فيصل الصوفي

فيصل الصوفي

أدنى من الذَّكَر ولو فاقته معرفة ودربة

Tuesday 16 March 2021 الساعة 08:00 pm

كان شيوخ الأزهر في القرن التاسع عشر يفتون بتحريم تعليم الطلاب دروس الكيمياء في المدارس المصرية، بينما كان العرب قد اشتغلوا بالكيمياء في منتصف عهد دولة بني أمية، أما في عهد دولة بني العباس فكان للكيمياء علماء كثر، مشاهير في بغداد، وفي غيرها من الحواضر، مثل ابن حيان، واشتغل بها حتى فلاسفة مثل الكندي.

مشكلة كهذه قد تم تجاوزها، تقريباً، لأن العلوم التجريبية تنتصر وتمضي إلى الأمام.. المشكلة التي تظل حية، هي تلك التي تتعلق بالجانب الاجتماعي العام والثقافي جزء منه، فالتغير أو التقدم في هذا الجانب بطيئ للغاية، بل تحدث أحياناً نكسات مهولة بعد تقدم.. في العمل يستخدم الرجل منا أحدث الوسائل التكنولوجيا، وفي بيته ترى الثلاجة والغسالة والتلفزيون وأفخر الأثاث، بينما من الناحية العقلية حمال أساطير، ويحظر على زوجه وبناته ما يبيحه للأولاد الذكور.

قبل الإسلام، وفي فجره، وضحاه، كان العرب يتباهون أن فيهم نساءً شاعرات.. ما تزال تماضر بنت عمري السلمية (الخنساء) حية فينا إلى اليوم من أيام الفترة التاريخية التي نسميها الجاهلية.. ومما له دلالة في مقامنا هذا، أنه حدث مرة أن تواجهت مع هند بنت عتبة زوج أبي سفيان.. تواجهتا في حضرة العرب.. في محفل عربي عام.. قال بهاءُ الدين البغدادي ما مؤداه: إن هندا لما نكبت بأبيها وأخيها وعمّها في معركة بدر، وبلغها ما تصنع الخنساء من بكاء ورثاء لأخويها معاوية وصخر، ثم بنيها، قالت هند: أنا أعظم من الخنساء مصيبة، فأمرت بهودجها فسوِم براية، أي وضع عليه علم يميزه.. ثم توجهت إلى عكاظ في موسم التسوق قبيل الحج، وقالت لخدمها: اقرنوا جملي بجمل الخنساء! ففعلوا، فاقتربت الخنساء وسألتها: من أنتِ يا أُخَيّة؟ قالت: أنا هند بنت عتبة بن ربيعة، وأنا أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك! ثم جرت المباراة، واستمع الحجاج العرب في سوق عكاظ إلى المساجلة التي جرت بين تماضر وهند.

بعد الخنساء بزمن قصير برزت ليلى بنت عبد الله الأخيلية.. وهي شاعرة فذة.. شخصية جمعت بين الذكاء والهيبة والسخرية والدعابة، وهي أيضاً صاحبة أجوبة مسكتة، فقد حاول مروان بن عبد الملك إحراجها بأربع كلمات، فسودت وجهه ثلاثا.. وللأخيلية هذه حكايات مع معاوية بن أبي سفين، ومروان المذكور، والحجاج بن يوسف الثقفي، أنشدت لهم أشعارها فأعجبوا ببلاغتها وحكمها، وكعادة الملوك أجزلوا لها العطاء.. قال بعض النقاد إنها فاقت فحول الشعر في عصرها.. وذكر صاحب كتاب أشعار النساء، أن شعراء كباراً مثل النابغة الجعدي وحميد الهلالي كانوا إذا اختلفوا في أي الشعر أجود؟ يتحاكمون إلى ليلى، فتنظر في محل النزاع، ثم تقول كلمتها.

هذان مثالان من باب الشاهد على مرحلة حضارية كانت تسير نحو الأمام، أما في عصور التخلف الاجتماعي، فقد تدحرجت نظرة المسلمين إلى المرأة نحو الحضيض، وفي أحسن تقدير إلى الوسط! حتى قيل إن أحدهم نبه فقيهاً: فلانة تقول الشعرّ.. فرد عليه: إذا صاحت الدجاجة صياح الديك تذبح!ّ وفي هذا الحضيض راجت مقولات من قبيل ليس للنساء قراءة، ولا شأن لهن بكتابة، فهذا للرجل، ولهن منهم أن يبتن على جنابة!!


لنرى الآن جانباً آخر من الصورة.. حين يتعرض علماء الأصول، وأهل الفقه، لمسألة فقهية معينة، يذكرون قول أصحاب المذاهب فيها: قال أبو حنيفة كذا، ورأي الشافعي كذا، والمسألة في مذهب الأوزاعي كذا، وانفرد سفيان الثوري برأي، ولابن مسعود في المسألة قول خالف فيه فلانا وفلانا.. والمعروف أن العلوم الفقهية، وعلم الحديث، والفتوى، ليست حكراً على الذكور، أو ليست الذكورة شرطاً من الشروط التي يتعين توفرها في المشتغلين بهذه العلوم، لذلك عرف التاريخ العربي- الإسلامي نساء برعن في الفقه والاجتهاد، وعلوم الحديث، والفتوى، لكن لا يذكر الفقهاء والمؤرخون إسهاماتهن العلمية في هذه المجالات، على الرغم من أنهم يذكرون أن بعضا منهن انفردن بآراء جديدة في قضايا معينة، ومع ذلك لم نجد من قال: وكان مذهب فلانة في المسألة الفلانية كذا، أسوة بما قالوا عن الأوزاعي مثلا أو عن الطبري، أو عن ابن حجر، كما لا يذكرون فتاواهن، باستثناء فتاوى عائشة، فيقولون روت عائشة، ومذهب عائشة في القضية هو كذا، كما ذكروا بعض آرائها التي خالفت بها معاصريها، ومن ذلك قولها بجواز سفر المرأة دون محرم.. وإذا جئت إلى كتب المحدثين قرأت في كلامهم في الرجال -الرواة- جرحا داميا: فلان ليس بثقة.. ليس بشيء.. مدلس.. اشتهر بالكذب.. وضاع.. حديثه لا يسوى فلسين، وهلم جرا، ومع كثرة النساء المشتغلات بعلوم الحديث، فإنهم يتوقفون عند عدد محدود منهن، على الرغم من أن كبار العلماء شهدوا بأن النساء محل ثقة في هذا الجانب أكثر من الرجال، على سبيل المثال الإمام المحدث شمس الدين الذهبي، وهو مشهور بمعرفة الرواة، وخبير في الجرح والتعديل، قال: وما ‏علمت في النساء من اتـُهمت بوضع الحديث.. أي وكتبت أو قالت خبراً ثم نسبته للرسول.