عبدالرحمن بجاش
ماذا لو كنا.. لماذا لم نستفد من تجاربهم؟
"يبهرون الدنيا بزورة موسكو، وعليهم غبار من ثمود" أو "عليهم قشرة العصر، والروح جاهلية".
كان العالم لتوه خارجًا من آثار حربين عالميتين، غيرتا شكل الكون، وبعد يالطا تبدت خارطة العالم موزعة كمناطق نفوذ بين المنتصرين، حيث كان للمنتصر الأكبر "ستالين" النصيب الأكبر من الكعكة، عبر عنها "ايزنهاور" الذي حنق مما أسماه تمكين "السوفيت" من الدخول إلى برلين أولًا.
قيل فيما بعد إنهم استولوا على أسرار الأسلحة التي لو كان وصل هتلر إلى صناعتها فسيستولي على معظم الخارطة.
كان العالم العربي خارج اللعبة تمامًا إلا من حيث التبعية، حيث انقسموا فيما بعد حسب حكامهم وجهلهم بين المعسكرين "الكتلة الاشتراكية وإمبريالية العالم الرأسمالي"، فكرة الرأسمالية جعلت مناطق النفط بعد خروج الإنجليز منها تؤكد تبعيتها لأمريكا هروبًا من الاشتراكية.
في الأخير خسر العرب كل شيء، وخاصة عرب النفط.
اليمن، بجزئيه "المحتل والمعتل" ظلَّا كما وصفهما النعمان الأستاذ الأكبر، من أدرك أسرار اللعبة ولم يجد اللاعبين في الشمال والجنوب إلا في أبشع صور الصراع "كلية بلقيس نموذجًا" حيث برزت الاتجاهات واضحة جلية، كل فريق يتبع المعسكر الذي قرأ كتابه.
وهنا كانت بداية "الودافة"، إذ بقي النعمان وحده يقرأ كتاب الواقع، والآخرون -وهم كثر- ظلوا يقرؤون الكتب الأخرى التي ألفت لآخرين، وإن كان الأمر لا يمنع من الاستفادة منها كفكر ونهج عالميين.
لذلك كان النعمان يردد ذلكما البيتين من الشعر.
خاض النعمان، الذي عرفته للتو، بعمق الآن، معاركه بفهم للواقع، وبفهم لما يفترض أن تكون عليه العلاقة بالمحيط.
اصطدم كثيرًا بالأفكار التي لا غبار عليها، لكنه كان يدرك أن الواقع، وبالذات في الشمال، لا يزال بعيدًا جدًّا عن تطبيقها، وهو ما كان يحذر منه بلا جدوى!
لن نعرج على 48 التي لم يتفق إلى اللحظة على ماهيتها؛ ثورة أم حركة، وسيظل الخلاف إلى يوم القيامة، لغياب قراءة الواقع وتغييب التقييم، وكلما دنت مرحلة واستقرت بدأ من الصفر إلى أن تحل أخرى، ومن ذات الصفر ما زلنا تائهين.
مشكلة هذه البلاد أنها لم تفهم نفسها إلى اللحظة، ولم تفهم نخبها كيفية إدارة علاقتها بمحيطها الذي تسكنه وساوس كثيرة تنطلق من مقولة الخير والشر!
ولغياب الرؤية والمشروع هنا ظل التعامل مع المحيط يبدأ من الفائدة الشخصية على اعتبار أن النخب نظرت إلى ثورة سبتمبر 62، فرصة للتخلص من ربقة الفقر الشخصي، لذلك انشغل من تبقى من ثوار بأمورهم، حيث ظل الإمام في النفوس، وصار معظم من وجدوا أنفسهم وسط الفعل يحلمون بأن يكونوا أئمة بدلًا عن الذين رحلوا.
كان النعمان، وانفتاحه على عصره واستشرافه للمستقبل، من خلال ضرورة التعليم والعلم، كان يدرك أن خلاص البلاد التأني وعدم الاندفاع الذي انعكس شعاراتٍ حماسية قاتلة أعمت البصر والبصيرة.
كان الرجل، وظل إلى أن توفي، متهمًّا برجعيته، بل إن من قرأ تلك الكتب صنفوه عميلًا للأمريكان!
وقد فوجئت أنا، وفي المؤلفات المختارة، وهي عمل جليل أنجزه حفيده المتألق لطفي، أن النعمان كان مطلعًا على التجربة الصينية خير ما يكون الاطلاع، لكن ظل يطرح على المستنفرين -بفتح الفاء- أن استفيدوا منها كتجربة إنسانية، بينما كانوا وظلوا يريدون نقلها إلى هذا الواقع، ولم يدركوا -ولا حتى متأخرين- أنها لا تصلح هنا كتطبيق بل تصلح هناك، وهنا يجدر بك أن تستلهم ما يناسبك!
لم يسمع أحد، وهذا تجلى في تجربة الجنوب التي يعبر عما آلت إليه كتجربة في يناير 86، منصور هائل خير تعبير في كتابه "أطياف عدن؛ هذيان الحطب".
الصراع بين مدارس يسارية شتى، أدى إلى صراع بين مكونات التجربة؛ أدى إلى انفجار القدر بكل ما فيه ليعمي العيون والأبصار، ويقود إلى وحدة الهروب، ليصل الصراع إلى جولته الحاسمة في 94، ليضيع كل شيء ويبقى اليمن كله معتلًّا!
مات الإمام أحمد، وتولى البدر إمامًا، أرسل إليه النعمان برقية، أخذت عليه، بينما لو أدرك من لامه عليها فسيجد أنه كان أبعد نظرًا من الجميع.
كان الثوار بلا رؤية، ولذلك جمح الخيل ولم يتوقف حتى اللحظة.
كان النعمان يدرك ما على هذه البلاد أن تقوله للجيران الذين تركوا شمال شمالها مقفرًا، فقد ظنوا أن الفقر والجهل والمرض والسلاح من سيكون حاجزًا بينهم وبين المد الثوري كما صورته الإذاعة يومها، فلا ذا تأتى ولا ذا حصل!
أدرك صاحبي عضو اللجنة المركزية فداحة الخسارة متأخرًا يوم جنازة الأستاذ، قالها في وجهي: "لقد خسرنا بخسارتنا هذا الرجل، ليتنا فهمناه"، قلت له لحظتها: "ولن يكفينا مئة عام للأمام، بكاء عليه وعلى غبائنا!".
لو حاول من حاول أن يأتي بزعامات أخرى بجانب النعمان، فلن يفرض جهله على حقيقة أن الرجل سبق عصره، وهو وجد واقعًا جاهلًا حاول بالتعليم إصلاحه، فلم يسعفه الوقت، ولم يترك له أحدٌ خيارًا.
كان يتطلع إلى يمن آخر يقبل بعضه وينطلق قطاره، وظلوا هم مشغولين بـ"مطلع ومنزل"!
ظلوا يعملون على أن يظل "مطلع" يحكم "منزل"، ونظروا إلى الثورة على أن هدفها يجب أن يكون كذلك؛ بينما أهدافها الستة، التي ظلت معلقة كورقة شجرة في الخريف تذهب بها الرياح وتأتي، لم تجد أبدًا طريقها للتطبيق؛ لأن من نقلها لم يستوعبها من الأصل!
ماذا لو كانوا سمعوا النعمان، وقرؤوا ما قرأ، ألم نكن لننجو من دورات الصراع التي هي عبارة عن بحث عن ضائعة في طريق معتم؟!
ماذا لو كانوا قرؤوا كتاب الواقع، واستفادوا من تجارب الآخرين شرقًا وغربًا، ألم نكن لننجو من انفجار القدر كلما زادت حمولته على قدرته على التحمل..؟!
لا جواب.
وسيظل الأمر هكذا إلى أن يقيض الله مشروعًا، وصاحبه ينطلق من الواقع أولًا، مستفيدًا من كتب الشرق والغرب.
*نقلا عن موقع خيوط