في كتابه (تجديد الفكر العربي)، يعترف الدكتور زكي نجيب محمود، أنه لم يقرأ شيئاً عن التراث العربي إلاّ في وقت متأخر، فقد شغله الفكر الغربي بكل نتاجاته من علوم وأدب وفلسفة.
لكنه حين التفت متأخراً إلى الفكر العربي، وجده على قدرٍ كبيرٍ من الارتقاء، ولام نفسه على تجاهله المتعمد لهذا الفكر الناصع الثري، بكل ما يشغل الإنسان ويملأ وجدانه، وفي مقدمة كتابه هذا يقول: (بأنه قد أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة؛ فلقد فوجئ وهو في أنضج سنينه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي كم أخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا أن نزيد، إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذٍ إلاّ أن نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين، فإذا ثقافات الغرب قد رُصّت على رفوفنا بالألوف، بعد أن كانت ترص بالمئتين.. لكن لا، ليست هذه هي المشكلة، وإنما المشكلة في الحقيقة هي: كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره نفلت من عروبتنا؟).
هكذا يعترف الدكتور زكي ويكاد بهذا يوصي الأجيال الجديدة بأن تكون على صلة بالثقافات الأخرى، ولكنها لا تتجاهل تراثها ولا صلتها الوثيقة به.
وكما قلت؛ إنه ليس الوحيد الذي كاد يغرق في ثقافة الآخرين، ولكنه الوحيد أيضاً الذي تراجع عن موقفه، واتجه بجهده وطاقته الثقافية ليقدم لنا نماذج حية وصوراً بديعة لما أنتجه المبدعون العرب. وليس غريباً أن يُعدَّ كتابه هذا عن تجديد الفكر العربي مرجعاً للأجيال، ومنطلقاً إلى فهم ما كانوا يجهلونه عن تراثهم وثقافتهم.
وفي مكانٍ آخر من كتابه هذا، يشير إلى (السؤال الذي فرض نفسه علينا فرضاً طوال أمد ليس بقريب، والذي أحسست بضغطه وإصراره خلال أعوامي الخمسة الأخيرة، أو قل خلال أعوام الستينيات من هذا القرن، فهو الذي يسأل عن طريق الفكر العربي المعاصر، ما الذي يضمن له أن يكون عربياً حقاً ومعاصراً حقاً، إذ قد يبدو للوهلة الأولى، أن ثمة تناقضاً أو ما يشبه التناقض بين الحدين، لأنه إذا كان عربياً صميماً، اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين حتى لا يدع مجالاً لجديد، وأن من أبناء الأمة العربية اليوم، من قد غاصوا هذا الغوص الذي لم يبق لهم من عصرهم ذرة هواء يتنفسونها).
وأعترف، وأنا واحدٌ من المهتمين بالآداب العربية والفكر العربي، أن الدكتور زكي قد وضع يدي على نماذج لم أكن على اطلاع عليها من قبل، وأشار بتوسع إلى قضايا بالغة الأهمية، تصدى لها الفكر العربي في سنوات ازدهاره واتساع مدى نشاطه وتنوع أبعاده.
وتلك هي مهمة المفكرين الحقيقيين الذين يقرؤون الثقافات بوعي وإدراك، بعيداً عن المبالغة أو التهوين.
وإذا كنت مثلاً قد اطلعت على فكر (أبي حيان التوحيدي) فإن القراءة الموسعة والشاملة، التي خرج بها الدكتور زكي، عن هذا المفكر العظيم، قد فتحت أمامي آفاقاً لم تكن في الحسبان، وهي كفيلة بأن تفتح تلك الآفاق في أذهان الأجيال، وتدفع بهم إلى متابعة هذا الفكر في تنوعه وريادته.
يلفت الدكتور زكي الانتباه إلى أهمية أن يكون العربي المعاصر على فهمٍ بموروثه، الذي لا يتعارض مع ثقافة عصره: (وإنه ليسهل على المتسرع بالإجابة أن يجيب في حرارة المؤمن، بأنه لا تعارض بين أن يكون الرجل مترعاً بالثقافة العربية القديمة، وبما ينبث فيها من قيم ومعايير وطرائق عيش وسلوك وأهداف ووسائل)، ولا تكفي مثل تلك الملاحظات منتزعة من قراءة دقيقة وواعية، بل يواصل في كتابه المهم هذا سرد المزيد منها، مؤكداً حقيقة ما حاول إثباته، من أن الثقافة العربية القديمة تجمع في محصلتها العامة ما ليس في ثقافة أخرى، وأن تجاوزها وجحودها يشكلان خطأ عملياً فادحاً.
ولا أريد في هذه الإشارات السريعة، أن أتجاوز موضوعها، وهو الاتجاه نحو اكتشاف ما في الثقافة العربية من إبداع، وما تركته للمعاصرين من تجارب بالغة الأهمية نظراً وتطبيقاً، ونتوقف هنا لنقتبس فقرة من الكتاب هي: (متى يعيش الإنسان ثقافته، ومتى يكون له كيان مستقل بذاته قائم برأسه، ولا شأن له بحياة الإنسان كما يحياها كل يوم؟ إنّ سؤالاً ليفرض نفسه علينا قبل هذا السؤال، وهو: ماذا نعني بالثقافة؟ ولقد كثُر طرح هذا السؤال، وتنوعت الإجابات حتى أصبح موضوعاً تمجُّه النفس، ولذلك فلست أنوي الوقوف عنده لا طويلاً ولا قصيراً، وسأترك للقارئ حرية كاملة في أن يفهم من الكلمة ما شاء، لأن ما سوف أرتبه على مفهومها، لا أظنه يتغير بتغير ذلك المفهوم، فلنفهم الثقافة على أنها طريقة العيش في شتى نواحيه، أو على أنها مجموعة القيم التي توجه الإنسان وتسيره وتقدم له المعايير التي يوازن بها بين الأشياء والمواقف ليختار).
بدأت الفقرة السالفة بسؤال قاد إلى مجموعة من التساؤلات، وكلها تستدعي وعياً خاصاً وفهماً لا يقبل الشك.
وذلك هو أسلوب الدكتور زكي نجيب محمود في مؤلفاته وترجماته.
* نقلا عن مجلة الشارقة الثقافية