ما زلت أتذكر الضجة السياسية والقانونية التي ترددت أصداؤها في مختلف أرجاء العالم، في شهر يونيو 1994 حول جريمة تفجير طائرة شركة الخطوط الجوية الأميركية بان أم، في سماء قرية لوكربي الاسكتلندية أواخر العام 1988..
كان على متن تلك الطائرة أكثر من 270 راكباً قتلوا جميعاً في الحادث، وكان هناك متهمان اثنان هما الليبيان عبد الباسط المقرحي، وخليفة فحيمة.. لكن في شهر يونيو 1994 برز إلى العالم متهم جديد لم يخطر في بال أعرق أجهزة الاستخبارات..
مراسل صحفي نقل خبراً مفاده أن المتهم الفلسطيني يوسف العلي اعترف لقاضٍ لبناني أنه هو الذي فجّر طائرة شركة بان أم. كان المراسل حاضراً جلسة قضائية لمحاكمة ثلاثة فلسطينيين اتهموا بأنهم في يوم 29 يناير 1994 اغتالوا دبلوماسياً يُدعى نائب عمران المعايطة، المستشار الأول لسفير الأردن إلى لبنان.. وفور سماع المراسل الصحفي حديث المتهم -يوسف العلي- مع قاضي المحكمة خرج على الفور يرسل خبراً عاجلاً إلى الإذاعة يقول فيه إن أحد الذين يحاكمون بتهمة اغتيال الدبلوماسي الأردني اعترف أمام المحكمة أنه مفجر طائرة بان أم.
بعد إذاعة الخبر تناقلته وكالات عالمية، مثل: الاسوشيتد برس، رويترز، الصحافة الفرنسية، وصحف عالمية كبرى... وتعزز بذلك موقف محامي المتهمين الليبيين، فقال إن هذا الاعتراف الذي أدلى به المتهم يوسف العلي يدل على براءة موكليه، ولا مشاحة من القول.. وخرجت السيدة بربارا بودين منسقة عمليات مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية تؤكد أنهم سيتحققون من هذا الدليل الجديد، على الرغم من أن لديهم أدلة دامغة ضد الليبيين المقرحي وفحيمة.
في حقيقة الأمر، كان القاضي يعرض على المتهم يوسف العلي الاعترافات التي أدلى بها أمام سلطات التحقيق عن دوره في اغتيال الدبلوماسي المعايطة، فرد على القاضي بالقول إني أدليت بتلك الاعترافات تحت التعذيب القاسي، فقد عذبوني لدرجة أنهم لو طلبوا مني الاعتراف بأني فجرت طائرة بان أم، لاعترفت لهم بذلك.
يبدو أن المراسل الصحفي لم ينتبه بعناية لكلام المتهم، ففهم منه خطأ أنه قال للقاضي أنا هو الذي فجر طائرة شركة بان أم الأميركية فوق قرية لوكربي.
الخبر أثار تلك الضجة الكبيرة لأنه يتعلق بقضية كبيرة وعالمية، وكان الموظفان الليبيان الاثنان، المقرحي وفحيمة، يعملان في مكتب شركة الخطوط الجوية الليبية بقبرص، هما المتهمان رسمياً من قبل الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، وأهالي ضحايا تفجير الطائرة، وجميع هذه الجهات طالبت ليبيا بتسليمهما للقضاء الدولي، وعندما رفضت تسليم مواطنيها فرض عليها مجلس الأمن حصاراً سياسياً واقتصادياً لإجبارها على تسليمهما للقضاء الاسكتلندي، وهذا ما تم في النهاية، وقد أدينا بالفعل وقبلت ليبيا دفع نحو 4 مليارات دولار تعويضاً للضحايا، بعد أن تبين أن الطائرة انفجرت بسبب حقيبة ملغومة أرسلاها على اعتبار أنها طرد دبلوماسي.
غير ما سبق، هناك وقائع تنقل للجمهور بطريقة مختلفة عما هي عليه في الواقع، وذلك بسبب إعلاميين يسيئون فهمها.. وأحياناً تلعب الخلفيات المعرفية السابقة دورها، ففي المثال الذي سقناه نعتقد أن ذهن المراسل لم يكن خالياً من تجربة مرت به في السابق، فقبل أن تتوجه تهمة إسقاط تلك الطائرة إلى الليبيين عام 1991 كانت أصابع الاتهام تشير إلى أن فلسطينيين ينتمون إلى الجبهة الديمقراطية قاموا بالعملية لحساب إيران.