د. عبد العزيز المقالح
محمد عابد الجابري رصـد تحولات الفكر العربي
المفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري، واحد من المفكرين العرب القلائل أصحاب المشاريع الفكرية، التي هدفت إلى رصد التحولات التي طرأت على الفكر العربي، منذ ظهور الدعوة الإسلامية وحتى النصف الأول من القرن العشرين.
ومن بين الكتب الرائدة، التي أصدرها في مجال ما سماه (إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر)، كتاب (الخطاب العربي المعاصر - دراسة تحليلية نقدية)، وفيه يقرأ الخطاب العربي الفكري في تحولاته، وتطور مساراته من أحكام وأفكار موجزة، إلى أبحاث ودراسات شاملة لكل قضايا التغيير، والانفتاح على الأفكار والجهود التي عاصرت ذلك التحول.
ويشير الدكتور الجابري، في مقدمة كتابه إلى أن مئة عام مرت على (الحلم) الذي عاشه الجيل السابق لجيلنا كـ(مشروع نهضة) وعشناه ونعيشه تحت نفس اللافتة حيناً، وتحت شعار الثورة حيناً آخر.
ومن دون شك، فإن مدة قرن من الزمان، تجعل الوقوف قصد المساءلة والمراجعة مشروعاً تماماً، بل ضرورياً حقاً.
إن الزمن في حياة الشعوب يجب أن يقاس بمقاييس غير تلك التي تقاس بها أعمار الأفراد.
ولكن مع ذلك، فإن (مئة سنة) في حياة الشعوب وحدة زمنية لا تخلو من أهمية، وهي بالفعل ذات أهمية بالغة بالنسبة للتاريخ الحديث والمعاصر.
لقد تحققت في العالم ككل خلال المئة سنة الأخيرة، خطوات عملاقة على صعيد تطور الحياة البشرية في كافة الميادين، ومع ذلك فإن نصيب العرب من هذه الخطوات مازال دون طموحهم بكثير، بل إن الواقع العربي الراهن، إذا ما نُظر إليه من نقطة ما في أواخر القرن الماضي، أي من زاوية ما كان يجب أن يفعله العرب ليحملنا على التساؤل: هل تمكن العرب فعلاً من تحقيق نهضتهم؟ هل يعيشون اليوم في الواقع ما عاشوه منذ مئة عام في (الحلم)؟ هل حققوا من التقدم ما يكفي لجعل مشروع النهضة ذاك يتحول فعلاً إلى مشروع لـ(الثورة)؟
بل إن الواقع الكئيب الذي افتتح به العرب ثمانينيات هذا القرن ليطرح بجد مسألة ما إذا كان العرب يتقدمون بخطوات (سريعة أو بطيئة) إلى الأمام، أم أنهم بالعكس من ذلك يغالبون، بدون أمل، الخطى التي تنزلق بهم إلى الوراء؟
إنها أسئلة تبحث عن إجابات إيجابية تتناسب مع التغييرات الجارية ومع الأحلام، التي كانت ولاتزال تحتل مكان الصدارة في حياة الأمة وتشغل أذهان المفكرين، كما شغلت فكر الدكتور الجابري وأمثاله، من رواد القرن العشرين.
ولنا أن نتساءل كذلك: أما آن للقوى السياسية أن تتبنى هذه الرؤية الحالمة، وتعمل على تحقيق ولو بعض مما اشتملت عليه وهدفت إلى تحقيقه؟
وتتضح الرؤية أكثر فأكثر في كتابه (وجهة نظر... نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر)، فقد نجح في هذا الكتاب كما نجح في كتب أخرى في تحديد معالم تلك الأحلام.
وفي مقدمة هذا الكتاب، نقتبس الفقرة الآتية لتوضيح ما تهدف إليه هذه القراءة الموجزة لمفكر يعد من أهم مفكري القرن العشرين: يجتاز الوطن العربي اليوم، مع إطلالة القرن الواحد والعشرين، مرحلة دقيقة من تاريخه الحديث، إن تطور الأوضاع في الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية، وهو التطور الذي حصل بفعل عوامل داخلية بدون شك، ولكن بالارتباط أيضاً، ارتباط تبعيته في الغالب بتحولات الوضع الدولي في الفترة نفسها، إن هذا التطور الذي حصل قد بلغ الآن مرحلة (الأزمة الشاملة).
هكذا يمهد الدكتور الجابري، لما سيطرحه من أفكار في كتابه هذا وإلى ما يدفعه إلى شرح الظروف والأوضاع، التي حاول مفكرو تلك المرحلة تغييرها وإحداث هزات إيجابية، تمكنهم من استيعاب الرؤى الجديدة، والانتقال من مرحلة الجمود والسائد إلى مرحلة الحراك والتجدد، الذي يتطلبه الواقع ويستعد لاستقباله بقدر من الوعي والشعور بأهمية تجاوز الحالة الراكدة.
من المؤكد أن مفكري تلك المرحلة، قد نجحوا كثيراً في تحقيق الأهداف التي سعوا إلى تحقيقها، برغم قسوة الظروف وما كانت عليه المجتمعات العربية من تخلف شنيع، وبفضل دورهم وما تركوه من آثار فكرية ونشاط اجتماعي على مستوى الجامعات والمنتديات، ولولا تلك الجهود، لظل الواقع العربي في حالته القديمة، وما تمكن من تجاوز سلبية التعثر ودخول عالم اليوم ولو بالحد الأدنى من التغيير المنشود.
ونعود مرة أخرى إلى كتاب الدكتور الجابري (الخطاب العربي المعاصر- دراسة تحليلية نقدية) لنتوقف عند واحد من معالم رؤيته ليزداد ما نقصده وضوحاً وجلاء.. (منذ بدء اليقظة العربية الحديثة، مع أوائل القرن التاسع عشر، والفكر العربي بمختلف اتجاهاته وتياراته، يعيش مشكلة (النهضة)، أو على الأصح يبحث عن مشروع النهضة.
بل يجب القول: إن المشكلة (النهضة) هي التي كانت ولا تزال، وراء انبعاث الفكر العربي وانقسامه إلى اتجاهات وتيارات.
وإذا كان شعار (الثورة) قد سيطر على ساحة هذا الفكر منذ أوائل الخمسينيات من هذا القرن، فإن هذا لا يعني أن مشروع (النهضة) قد تحقق كاملاً أو أن شعار (النهضة) لم يعد يستجيب لطموحات الجيل العربي الجديد، كما قد يكون تراءى للبعض في أوائل الستينيات، بل العكس لقد استرجع هذا الشعار منذ بضع سنوات مكانته في الساحة الفكرية العربية، بينما دخل شعار (الثورة) منطقة الظل على نفس الساحة).
وللجيل الراهن وما يحيط به من إحباط، أن ينكر كل الجهود الفكرية التي أدت إلى التغيير والنهوض المحدودين في الخمسينيات والستينيات، لكن الحق يقال، إن تلك الجهود قد أثمرت حالة من النهوض، قوبلت من الداخل والخارج بحرب المعوقات، لا سيما دور الاستعمار الجديد ودفاعه عن مصالحه بإبقاء الوطن العربي خارج العصر، علماً أن مفكري تلك المرحلة، قد أنجزوا المهمة الانتقالية بنجاح، رغم وصفنا له بالمحدود.
ونحن نزعم أنه لولا أن تلك الجهود لم تثمر، لكان الوضع الراهن أسوأ مما هو عليه، فضلاً عما حققته من إنجاز لا ينكر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كما سبقت الإشارة.
إن علينا، ونحن نقرأ جهود الرواد ودورهم النظري والعملي، أن نعيد قراءة ذلك بقدر من الإنصاف والشعور بالتقدير لجيل لم يقف من ذلك الواقع موقف المتفرج، وأن ذلك الجيل قد أخلص لأمته، وحاول بكل طاقته المعنوية والمادية، أن يصنع شيئاً من التغيير في ظروفٍ هي الأقسى والأصعب.
ومما يؤسف له أن عدداً من مثقفي المرحلة الراهنة، يتمتعون بقدرات عالية لإنكار دور كل من تقدمهم، وهي حالة معروفة ومتكررة في الشعوب، التي تتعرض لما تتعرض له أقطارنا من عوائق وانكسارات.
* نقلا عن مجلة الشارقة الثقافية