على منوال الواقع اليمني الذي يختلط فيه الهزل بالجدّ، جاءت اللائحة التنفيذية الجديدة لقانون الزكاة اليمني المقرّة من سلطة الأمر الواقع في العاصمة صنعاء، لتقرّ تشريع دفع 20% من الثروات الوطنية لصالح فئة اجتماعية معينة تدّعي أن لها وضعاً مميزاً في الدين والسلطة.
لنبدأ مع الهزل ونؤجل الجدّ قليلاً..
يجهل كتبة اللائحة أن العبودية أُلغيت من العالم وصارت جريمة ضدّ الإنسانية.
في المادة 109، نص على أن من مصارف الزكاة مساعدة من يحتاج من المسلمين لفكّ رقابهم من الرقّ و”خاصة العبد المملوك لإعانته في المكاتبة ليحصل على الحرية”!، وليس غريباً على من ما زال يعتقد أن الخمس تشريعٌ صالحٌ للقرن الحادي والعشرين أن يظنّ أن العبودية ما زالت مستمرة، وأن مهمته أن يشتري العبيد من سادتهم بدلاً من حبسهم ومعاقبتهم لأنهم ارتكبوا أبشع جريمة في حق الإنسان.
لكن جرعة الهزل تتعالى عندما تذكر المادة 108 أن من مصارف الزكاة “المؤلفة قلوبهم” الذين خصّص لهم 2% من إجمالي الجبايات.
وإذا تذكّرنا التاريخ جيداً فإن سهم المؤلفة قلوبهم قد أُلغي في زمن عمر بن الخطاب، بعد أن أصبح الإسلام قوياً ولم يعد بحاجة إلى الاستقطاب المالي للمعاندين.
لقد ذكرت اللائحة ثلاثة أنواع من المؤلفة قلوبهم: النوع الأول الأشخاص والجهات التي يحتاج إليها الإسلام، والنوع الثاني الأشخاص والجهات التي يُخشى ضررها على الإسلام، والنوع الثالث الأشخاص الذين يحتاجون إلى دعم مادي لثبيت أقدامهم في الإسلام.
ربما يكون المقصود بهذه المادة أصدقائي الملحدين اليمنيين باعتبارهم المؤلفة قلوبهم في القرن الحادي والعشرين.
ولست أدري من النوع الثالث من المؤلفة الذين يحتاجون إلى دعم مادي لثبيت أقدامهم في الإسلام، وإن كنت أظن أن الغالبية العظمى من اليمنيين سيدخلون ضمن هذه الفئة عندما يقرؤون فظاعات اللائحة!
وقد تضحكون وربما تصرخون فزعاً إذا عرفتم أن من مصارف الزكاة “العاملون عليها” من موظفي مؤسسات الزكاة ومحصّليها.
لكن ماذا لو عرفتم أن العاملين عليها ستذهب إلى جيوبهم نسبة 20% من إجمالي إيرادات الزكاة الضخمة!
وإذا كان هذا كله لم يكفِ لإثارة ضحكك، فاضحك معي حول تعريف الفقير كما ذكرته المادة 106: “يقصد بالفقير من يملك المسكن المناسب والأثاث المناسب والملبس المناسب، ولكنه لا يملك النفقة المناسبة لتغطية الاحتياجات الضرورية له ولمن يعول”!، إن هذا أغرب تعريف للفقر قرأته في حياتي.
يحدد العالم الفقر بمستوى دخلٍ معين مثل أن نقول إن الفقير هو من يكسب أقل من دولارين في اليوم.
لكن هذا التعريف العجيب الغريب المضحك للفقير يمكن أن ينطبق حتى على شخص يسكن في فيلا في الحي السياسي، مفروشة بأثاث “مناسب” من خشب الزان أو الصنوبر، ويشتري ملابسه “المناسبة” من Zara، لكن دخله لا يكفي لتغطية الاحتياجات الضرورية من أكل وشرب وفسح وسفريات!
ويبدو أن الهدف من هذا التعريف، قد يكون التهرب من حقيقة أن 80% من اليمنيين فقراء، وبالتالي يصبحون مستحقّين للزكاة لا دافعين لها، وهذا يحرمهم من الجباية من الغالبية.
لنترك الهزل إذاً وننتقل إلى الجد، فقد هزلنا حتى دمعنا من ألم الضحك، بل من ألم الجهل.
وأول أخطار التشريع الجديد للزكاة أن الجميع ركزوا على صفحة واحدة فقط هي صفحة “الخمس” من أصل 38 صفحة تضمنت موادّ خطيرة واستغلالية قد تدمّر ما بقي من اقتصاد وإنتاج.
لا شك أن تخصيص سلالة معينة بامتيازات مالية عنصرية مفضوحة لا مجال لإخفائها، لكن القضية لا تقف هنا.
إن هذه اللائحة بالإضافة إلى اللوائح الأخرى لقوانين الضرائب والجمارك تمكّن المسيطرين من الاستيلاء على ما لا يقل عن نصف أو ثلاثة أرباع مكاسب المواطنين المنتجين دون وجه حق، كزكاة وضرائب وواجبات ومجهود حربي ومولد نبوي ومساعدات وإعانات.
جبايات كفيلة بتدمير المدمَّر وتجويع الجائع، وكأنها اللمسات الأخيرة لتكريس واقع البؤس في اليمن.
إن الظلم لا يقف عند الخُمس فقط، فأغلب أحكام الزكاة في الفقه الإسلامي كانت أحكاماً ظالمة، لأنها جاءت تبريراً للغزو والفتح والحاجة إلى امتصاص كل ما يمكن امتصاصه من موارد من أجل تمويل السلطان وتمويل غزوات جديدة.
فإذا كان تشريع الـ20% ظالماً، فإن تشريع الـ10% الذي يجبر كل مزارعٍ على دفعه من ثماره لا يقل ظلماً.
80% من اليمنيين فقراء وبحاجة ماسة للمساعدات الإنسانية، لكن قانون الزكاة الجديد لا يعترف بهذا ويتشدد في جمعها من الفقراء قبل الأغنياء، حتى إن زكاة الفطر خصمت من ربع الراتب الذي تم دفعه للموظفين المحرومين من رواتبهم منذ ثلاث سنوات!
النقطة الثانية من نقاط الجدّ المؤلم أن هذا القانون ليس جديداً، بل هو قانون الزكاة القديم الذي صدر عام 1999، وأقرّته لجنة تقنين أحكام الشريعة ذات الأغلبية الإخوانية.
كنت قد قلت سابقاً إن العلاقة بين السنّة والشيعة ليست علاقة عداوة بل هي علاقة تكاملية.
السنّة يمهّدون الطريق بتكريس وتقديس نصوص وأحاديث عنصرية والدفاع عنها، ثم يأتي الشيعة ليقطفوا الثمرة.
وهذا ما حصل إذ وضع المشرع القانوني الإخواني عبر لجنة أحكام تطبيق الشريعة في البرلمان عام 1999 بذرة “الخُمس” في القانون عبر المادة 20 و21 من قانون الزكاة، وتركوا المجال “للائحة التنفيذية” لتفسير الخُمس ومصارفه، وهو ما قامت به سلطة الأمر الواقع اليوم بعد أن التقطت الكرة من العمامة البيضاء.
إن التشريع للخمس في العام 2020، هو هامش تفسيري “شيعي” على المتن “السني” الإخواني، الذي تمت صياغته في 1999.
لا يجهل أحدنا اليوم أن الجبايات الظالمة للزكوات كانت أحد أهم أسباب ثورة 26 سبتمبر 1962.
ويبدو أن الظلم يعود من جديد عبر المادة 40 في اللائحة التنفيذية التي قررت أن تحسب زكاة الزروع والثمار من إجمالي المحصول دون خصم أي مصروفات خسرها المزارع للريّ أو الزرع أو النقل أو الاستصلاح.
كما أن المادة 41 تضاعف الظلم عندما تقول إن الزكاة قد تُدفع أكثر من مرة في السنة إذا أخرجت الأرض أكثر من محصول، مخالفين بذلك أهم شروط نصاب الزكاة في الفقه التقليدي وهو اكتمال السَّنَة.
وإذا كنت تظن أن الزكاة واجبة على الأغنياء فقط، فأنت مخطئ.
فالزكاة في القانون فرض على الفقراء أيضاً، والمادة 50 حول زكاة الفطر تقول إنها واجبة على الشخص المسلم حتى ولو كان لديه غذاء يوم واحد فقط!
وإذا كانت الأرقام تقول إنه بسبب الحرب صار 80% من اليمنيين فقراء وبحاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية، فإن قانون الزكاة لا يعترف بهذا، ويتشدّد في جمع الزكاة من الفقراء قبل أن يطلبها من الأغنياء، حتى أن زكاة الفطر خُصمت من ربع الراتب الذي تم دفعه للموظفين المحرومين من رواتبهم منذ ثلاث سنوات!
هذه اللائحة لا تحارب الفقر بل تجبي الزكاة من الفقير، وتزيد نسب الفقر وتوسعه وتطيل أمده.
وإذا كان هذا كله لم يكفِ لتشعر بظلم القانون وعشوائيته، فعليك أن تقرأ المادة 9 التي تقول إن الزكاة لا تسقط بتلف النصاب.
فإذا كان لديك زروع أو ثمار أو منتج أو تجارة وتلف منك الحدّ الشرعي لزكاتها لأي سبب، فإن هذا لا يعفيك من دفع الزكاة.
ستدفع سواء كنت رابحاً أو خاسراً، فقيراً أو غنياً، جائعاً أو ميسوراً، راضياً أو مجبوراً.
هل انتهى الجدّ هنا؟
كلا.. لقد صدرت هذه اللائحة في 29 أبريل/ نيسان 2020، في ذروة إصابات ووفيات وباء الكوليرا في اليمن.
ولعل التوقيت يشرح لنا الكثير حول سبب إخفاء حقيقة الوباء والوفيات.
وجدّ الجدّ هو ما يلي:
إما زكاة وإما ضرائب، ولا يجوز الجمع بينهما.
إما تشريع ديني أو تشريع مدني، ولا يمكن الجمع بينهما.
إما مواطنة متساوية أو عنصرية، والناس يعرفون الفرق جيداً.
* نقلا عن موقع "خيوط"