يقولون: هذا شهر القرآن، شهر الصيام والصبر والجلد، شهر صلاة التراويح، والتهجد، والاعتكاف في المساجد والجوامع، وإفطار الصائمين، وغير ذلك من الخيرات الضامنة نوال الأجر والثواب، فإن أصبنا بفايروس كورونا، فذاك أمر الله وما شاء فعل.. وعلى ذلك ترى في وقت الجائحة صلاة الجمعة قائمة، وصلاة الجماعة قائمة، والإفطار الجماعي في المساجد، وأصوات الأئمة وتأمين المأمومين يصدح من المساجد والجوامع، علامة على أنهم يقيمون تلك الصلوات.
المساجد -و مدينة عدن مثالاً شاهداً- أبوابها مفتوحة في الليل والنهار، كأننا في مهرجان الاستخفاف بفايروس مميت.. بينما العبرة شاخصة بوجهها أمام أئمة الجوامع والمساجد والعباد، حيث صارت مدينتهم موئل الفايروس.. قبل أيام عندما كنت في الشيخ عثمان لبعض حاجتي، ضايقتني مثانتي، وبينما أنا أبحث عن حمام عام، رأيت باب جامع النور مفتوحاً فصعدت، وأرحت مثانتي، وبعد خروجي من الحمام رأيت الناس نائمين على سجاد الجامع، في بنيان مرصوص كأنهم أسماك في سوق السمك بمديرية صيرة.. تصوروا مصاباً بالفيروس سجد وتنفس في مكان السجود، وجاء آخر ثم آخر يسجد أو ينام ويضع أنفه في نفس مكان السجود!
وهذا مثال ليس غير، إذ الأمر لا يقتصر على عدن، فصلوات الجمعة والجماعة والتراويح تقام في معظم المساجد التي يقال إن عددها في البلاد يزيد عن الخمسة آلاف، على الرغم من أن وزارة الأوقاف أمرت بإغلاقها حتى تزول المحنة.
في الحرم المكي حيثما تم الاضطرار للسماح بصلاة التراويح، وهذه حالة استثنائية، تم فرض الإجراء المعروف بالتباعد الاجتماعي، وأجاز شيوخ الدين الكبار أن يقف المصلون في الصف على أن تفصل بين المصلي والمصلي مسافة متر واحد، وذلك بعد أكثر من ألف وأربعمائة وخمسين سنة من العبارة التقليدية: سووا الصفوف، ضيقوا الخلل، سدوا الفُرَج، كي لا يتسلل منها الشيطان.
لقد فرض كورونا تحديات صحية واقتصادية ومالية، ودينية أيضاً، وأوضح مظاهر التحديات الدينية، هي تنازل المؤسسات الدينية ورجالها الكبار عن المعهود كما رأينا قبل، وكما في تفاصيل سوم تمر بنا بعد قليل.. حيث تأكد لهم أن فايروس كورونا أخبث من الشيطان، وأخطر على الأمة من إبليس ومردة الشياطين.. وأصحابنا هنا في اليمن متصلبون، وإن شئت قل مزايدون دينياً، أو كأنهم وهبوا وصية الإسلام الأخيرة!
يا جماعة الخير، لستم أحرص من رجال الدين العالمين، سواءً علماء الأزهر، أو الزيتونة، أو رابطة العالم الإسلامي، أو في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وفي غيرها.. القوم قد أجازوا حظر أداء العمرة، وربما يتم إلغاء موسم الحج لهذه السنة.. في السعودية والدول الأخرى من حولنا، أغلقوا المساجد والجوامع، اتقاء شر كورونا، ولا تزال أبوابها مقفلة.. وساقوا لذلك أدلة من مختلف مصادر التشريع الإسلامي: القرآن، السنة، المصلحة، الإجماع، رأي الجمهور، القياس، والعقل.. قالوا إن مجتمعاتنا يعصف بها كورونا، وما دام الإصابة بعدوى الفايروس القاتل متحققة في التجمعات البشرية، فعلينا أن نلتزم بالإجراءات الاحترازية للوقاية من الفايروس، ومن هذه الإجراءات الامتناع عن المخالطة أو التجمع في مكان واحد حتى ولو كان الغرض أداء العمرة، ما دامت التجمعات هي السبب الرئيسي لنقل العدوى وانتشار الفايروس على نطاق واسع.. وقالوا أيضاً إنهم يسوغون الإجراءات التي تقررها السلطات المختصة ويقترحها الأطباء المتخصصون، بحكم أن الإسلام جاء لحماية النفس الإنسانية من التلف، ومراعاة مصالح المسلمين عامة، وبحكم قاعدة لا ضر ولا ضرار، فصل الفرائض بما في ذلك صلاة الظهر عن الجمعة في بيتك.. صلاة التراويح في بيتك يا مصل.. كن مواطناً صالحاً.. قدوة لغيرك.. ثم إن هذا وضع استثنائي، والإغلاق مؤقت، وستعود المساجد والجوامع كما كانت، لن تطير من الأرض.
قد يقال: لماذا عليهم الالتزام بعدم التجمع في المساجد والجوامع؟ بينما ترى التجمعات البشرية في مختلف الأمكنة: أسواق القات، أسواق اللحوم والخضروات، المولات، و... و... و... وهذا سؤال غير محرج، فمن ناحية تعتبر المساجد أمكنة لتجمعات مستمرة، والناس يدخلون منها ويخرجون إلى مثلها، ويعودون إلى الأسواق وإلى بيوتهم وهكذا، وهذه دوامة كورونية، أو عدوى كورونا متسلسلة محتملة، إن لم تكن مؤكدة، والأخيرة أقرب للصواب.. ثم إن مديري مكاتب وزارة الأوقاف وخطباء وأئمة المساجد عليهم الأخذ برأي الراشدين الذين ذكرناهم فوق، فاتباع الرشيد رشد وفلاح، وواجبهم يملي عليهم الانضمام إلى مجموعة مكافحة الفايروس، وذلك من خلال مخاطبة الناس خارج المساجد، من منابر المساجد ومن خارجها.