بحثت عن قلم وبياضة لأكتب إليكِ ولم أجد، وبعد عناء أنقذني أحد رفاقي بقلم مكسور، مداده يكاد أن يجف وببياضة تغير لونها.
أهتديتُ إلى جذع شجرة أسندت ذراعي عليه ومددت أرجلي بطول ظلالها، لا أعرف ماذا أكتب وكيف أبدأ رسالتي إليكِ،
سأحاول أن أقف شارحاً لكِ نجواي الذي لم ينقطع بيني وبين الله، وأحلامي التي تزهر بذكركِ، وصوت البندقية والشرف الذي أقاتل لأجله، والمستقبل الذي أسمع أغانيه وألحانه الجميلة بصوت الأجيال القادمة وقد غسلنا بلادنا من درن الإرهاب ورجس الميليشيات الدينية المتطرفة.
عزيزتي سلمى:
كما تعرفين تركتكِ للوحدة تنهش وقتكِ بالانتظار وتحوله إلى ذرات، وخضتُ الوهاد السحقية، ورافقت الموت على كتفي ونزعت الخوف من جلدي، ولبست ثوب بلادي بلون تربتها، بلادي هي قضيتي العادلة التي أقاتل لأجلها ولأجل أن يعيش أبناؤها في سلام وتعايش ونظام جمهوري ديمقراطي وحرية لا تعترف بالسلاسل والقيود.
أما أنت يا حبة القلب أقاتل لأجل عينيكِ اللتين تلامسهما أشعة الشمس في صباح كصباح مدينة الحديدة وتزداد إشراقة تضيء بها روحي وتدفعني إلى البسالة بخيوطها الدافئة، لا أسمع صوت المعركة وأنا أخوضها، ولا أرى القذائف وهي تنهمر على الرملة وتلتهمها وكأنها قطرات المطر، أنت الوحيدة من أسمع صوتكِ وأرى كيف تهرولين بين كلتا عيني دمعة الاشتياق والعودة بالنصر والمحبة، أنت يا سلمى وبلادي من تستحقان التضحية وقد نذرت نفسي لذلك.
المعركة هنا ليست بتلك السهولة التي ينقلها إليكم الإعلام، إنه ينقل لكم المعركة لتشاهدوها عبر وسائل الإعلام لكنه لا ينقلكم إلى أرضها، نحن عنكم من نخوضها في الواقع
العدو مهووس بالانتحار عند خطوط التماس، يحاول كل يوم أن يحرز تقدماً ولو مزيفاً لتلتقطه وسائل إعلامه، لكنه يبوء بالفشل ويخسر عشرات الجثث من أتباعه دون تحقيق شيء يذكر.
في كل مرة نجد أن الجماعة الحوثية الإرهابية التي نقاتلها تحشد الكثير من أبناء بلادنا ونتحسر عندما نشاهدهم جثثاً ممزقة في البراري والسواحل والضياح، لا يقومون بأخذ الجثث في أغلب الأحيان إلا إذا كانت جثة لقيادي هاشمي فإنهم يعودون ويتسللون لأخذها حتى وإن سقط منهم قتلى جدد.
عزيزتي سلمى:
لا أعرف لماذا هي الرغبة تملكتني في الحديث لكِ عن المعركة وما يدور هنا وكيف أقضي يومي مع رفاق الدرب والسلاح، رفاقي المقاتلين بعد أن تعمدنا بدماء أصدقائنا الذين استشهدوا، وكان عهد الدم ميثاق شرف نقاتل بعصمته التي نكون في حل منه عندما نستشهد ونلتحق بالرفاق بجوار الرفيق الأعلى.
الصداقة هنا يا سلمى ليست كما في الحالات الطبيعية، هنا تكون لها قداستها ومكانتها وتضحياتها، صوتنا صوت واحد، يدافع الجميع عن الجميع ونسهر لحماية بعضنا، نقتسم الخبزة والضحكة والدمع، إنني سعيد جداً برفاقي المقاتلين،
الحر هنا شديد جديداً وأنا ابن الجبل لم أعتَد حرارة الساحل الغربي، لكن من أجل أن يبقى الجبل شامخاً لا تنكسر هامته ولا تتلطخ مدرجاته الزراعية بالذل والخنوع للميليشيات الإرهابية أتحمل شموس الساحل وشدة حرارتها وكأنها في سبيل الجبل برداً وسلاماً.
ينادونني رفاقي التهاميون والجنوبيون يا ابن الجبل الشمالي، جلدك يتحول، وصوتك ينصهر، وملامحك تكتسي بيئة الساحل، ورئتيك اعتادتا هواء البحر..
أجيب عليهم: لكن قلبي مترع بحب الجبل، ولابد أن يصافح قمته، وأن يلامس مدرجاته الزراعية، قلبي الذي كبر كل يوم مع شجرة البُن التي أمام منزلنا وامتلأ بالحب من الحقول ومواشينا وازداد ابتهاجاً عندما حلت فيه سلمى وروح سلمى..
عزيزتي سلمى:
الفجر قادم لا محالة، والنصر يلوح في الأفق، ولابد من تخليص البلاد من الإرهاب الحوثي والجماعات المتطرفة، هذا واجبنا الوطني والأخلاقي، ولابد أن نقوم به على أكمل وجه، طريقنا نشقه بسواعدنا من أجلكم ومن أجل الأجيال المقبلة، لا نريد بذلك إلا الرضا من الله ومحبته والمحبة لبلادنا والعيش بأمان لكل الناس.
الدولة بوجودها وبقوانينها النافذة هي ضمان أكيد للحقوق والحريات، ولا بد أن تعود الدولة ويستريح المجتمع ويستريح رفاقي الشهداء بتحقيق هدفنا الأسمى.
تحملي طول غربتي وبُعدي عنكِ، كما هو أنا يثقل كاهلي طول عناء البعد عنكِ لكنني حتماً سأعود إليكِ وستعود إلينا بلادنا ويعود الأمن وننعم بالهدوء بعد كل هذا الضجيج الموجع والمحزن.
أحبكِ كثيراً يا سلمى، وإن رأيتِ يوماً جثتي مضرجة بدمها إياكِ أن تنوحي، فدمي ليس أغلى من دماء رفاقي، دمي هو الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أقدمه من أجلكِ وبلادي في هذه الظروف وهذه المعركة التي نحن مجبرون على خوضها بدافع الولاء الوطني والأخلاقي.
سأكتفي بالحديث إلى هنا، سأعاود الإرسال إليكِ في المرة القادمة، بإذن الله..
أعرف الآن أنكِ تبكين وأنت تقرأين، أرجوكِ كفكفي دمعكِ وانظري إلى قمة الجبل العالية حيث يوماً ما قريب وعند الفجر أناديكِ من هناك: يااااا سلمى هذا أنا عدتُ، هذا أنا صوت الجبل.