سأقول لكم أشياء كثيرة عني وأحدثكم عن المواجع التي تحيط بي سياجاً منيع لا نهاية له، وأقول لكم ماذا أقول راغباً في صلاتي المسجونة بين سماء هذه الأرض وروحي.
شاب يدخل في عقده الثالث بصوت المدافع وجثث أصدقائه وجماجمهم تلك التي كانت شامخة كجبال بلادي المنهكة، إذاً عمري لا يزال يافعاً.
كنت أحلم وكانت الأحلام بهية بأجنحة، وكنت أدرس وصوت الدكتور أثناء المحاضرة يشق طريقه إلى القلب بفرح كبير، وكنت أضحك كثيراً قبل أن أتوسد الحزن والهموم وتتربص بي الأفكار الموحشة كنهار بلادي المظلم، وكنت أتوق إلى ذلك الذي سأصبح فيه موظفاً أستلم الراتب نهاية كل شهر وأسدد إيجار المنزل وصاحب البقالة وفاتورة الماء والكهرباء وما تبقى احتفظ به للأيام السوادء.
كانت لدي الطموحات تمشي معي في الشوارع والأزقة والميادين، والأمل الكبير الذي يأخذني من بين الخذلان والانكسار المستجير بالصلابة والمقدرة، والحب… ذلك الحب الذي يشعل القلب كالمصباح في الزجاجة كأنه الكوكب الدري المذكور بالقرآن، أحمله بين ضلوعي أحميه من شوائب الجيل الجديد.
كنت وكنت وكنت وتهت وضعت وضقت وضاقت بي الثوان عندما رأيت دولة بكل كيانها تسقط أمامي وتنهار أحلامي وتذوب طموحاتي ويتلاشى الحب وينطفئ كما انطفأت قناديل هذا الشعب وروحه التائهة في الوديان والهضاب
بدأت صرخات المدافع تدوي وتختلط بصرخات النساء والأطفال من الرعب وتعبر جحافل القادمين من الخيام مرعوبة من الحياة تختبئ بين لحاف الموت وعبثيته وتجتاز حدود القيم المجتمعية والأعراف والتقاليد العتيقة وتدنس قداستها برائحة الدم والانتقام وتسكب على ضفاف حياتنا السواد القاتم والزيف المخادع، وتنصب عند مداخل بيوتنا المتارس والمدافع وتسقط على قلوبنا الوهم وعلى أجسادنا القنابل والمدافن.
عشت تلك اللحظات وسقطت مني ذراعي لأني لم ألوح بها، وعلى حين غفلة والذهول يحط رحاله على وجوه الناس سقطتُ مغشياً كما يسقط القتيل على الأرض، حاولت أن أصرخ بصوتي لكنهم صادروه، وحاولت أن أكتب بقلمي لكنهم كسروه، وحاولت أن أزحف وسط هذا الكم الهائل من الموت لكنهم غرزوا في عنقي بندقية..
لم أستطع تجميع شتاتي وأسندت كغيري من الشباب مهمة صناعة موقف في هذا التاريخ المفصلي من حياة المجتمع إلى قيادات تاريخية هي سقطت ايضاً بصورة تراجيدية لم يتوقعها أحد، وأعطيناها قوة القرار الذي ستتخذه ونتحرك دفاعاً عن القيم العظيمة كالعدالة والحرية والأخلاق، وتناسينا أن دولة سقطت ومجتمعاً سقط ونحن فيه نشعر بوخز وألم، مع ذلك لم أكترث ولم أستوعب ما يجري بصورة واضحة كما أراها اليوم مرسومة بالنار والدم.
والآن خمس سنوات وما زالت الحرب تجوب شوارع المدن والقرى وما زالت الأمهات يندب أبناءهن العائدين قتلى، وأنا أندب أحلامي وصوتي وقلمي وذراعي، أندب نفسي كيف ضاعت ملامحي وغبتُ في الصمت والوحدة الموحشة!!
الحرب تسرق أجمل أيام عمري وتسجنني بين التعب والإهانة، وبين الرغبة بالأمان الوجودي، وتعيقني من إثبات الذات والحصول على وظيفة وراتب أمنع عن نفسي وعائلتي الجوع وأنين المرض.
لا أطيق النظر إلى مائدتنا وهي خالية مما كنا نأكله قبل الحرب، ولا أطيق نفسي وأنا عاجز عن توفير ذلك كما كنت أفعل وأعمل، لا أطيق المواقف التي أبدوا فيها كالمشلول وكالجثة الهامدة، الحرب جاءت بكل تلك القيود والحواجز والعجز ومنعت عني أشياء لا بد أن أقوم بها تجاه الحياة،
أمشي في الشوارع ألاحظ وجوه الشباب فإذا هي تشبه وجهي يعتليها الحزن والألم وتنخرها الهموم، وتتشكل الاضطرابات النفسية والأزمات الشخصية وتتطور وتختلف درجتها من شاب لآخر، الذي لا يصدق عليه أن يذهب إلى مراكز معالجة الحالات النفسية وسيجد الشباب هم من يرتادها بحالة مأساوية وموجعة.
الانتحار وسيلة للتخلص من هذه الظروف، لقد فعلها الكثير من الشباب وانتحروا بعد أن جارت عليهم الحياة وقسوة الحرب ولم يتمكنوا من الصمود أكثر وأخاف أن أجد نفسي يوماً ملقى على الأرض أو متدلياً من على مشنقة بدائية، لكنني مؤمن بأن الهروب من الحياة بالانتحار هو للجبان ولا أحب أن أكون جبانا وأخاف أن أصير إلى ذلك.
لستُ الوحيد الذي يعاني من قسوة الحياة والحرب، ولستُ الوحيد الذي يفكر بالموت للتخلص من متطلبات الحياة، ولستُ الوحيد الذي تحطمت أحلامه وطموحاته وكبرياؤه، أنا واحد من شباب بلادي الذين تكويهم الحرب، وما كتبت هذا على لساني وهو حال الجميع وصوت الجميع.
أقف في الأخير بدعوة إلى نفسي أولاً وشباب بلادي بالصمود ومهما كانت جسارة وقسوة الحياة بسبب الحرب إلا أنه لا بد أن ننتصر حتماً ولا بد أن نوثق لحظات الصبر بالنصر وتعود الحياة وتعود بلادي ونعود نحن.