حسين الوادعي

حسين الوادعي

تابعنى على

برنامج “المتحري” وإعادة كتابة التاريخ اليمني حسب السردية الحوثية (1-2)

منذ 3 ساعات و 32 دقيقة

أولًا: الجزيرة وسفراؤها اليمنيون في خدمة الرواية الحوثية

توظيف قناة الجزيرة لمواردها وطاقمها الإعلامي لخدمة الأجندة الحوثية ليس أمرًا جديدًا. فقد اعتدنا على خطابها الإعلامي اليومي الساعي لتحويل جرائم الحوثيين وعمالتهم للمحور الإيراني إلى بطولات مصطنعة. 

لكن الجديد أن الجزيرة انتقلت من مرحلة الدعاية الإعلامية اليومية إلى مرحلة أخطر، وهي إعادة كتابة التاريخ اليمني بما يخدم السردية الحوثية، وبما يعزز مكانتها كأحد أهم الوكلاء الإقليميين لخدمة الأجندة الإيرانية بعد سقوط أداتها الكبرى، حزب الله.

برنامج المتحري الاخير ( اليمن واسرائيل..جذور الصراع) حلقة في نفس السلسلة وبأيادٍ يمنية. ساعة من البث مليئة بالأخطاء التاريخية، والتلفيقات القائمة على ضعف الإلمام بالتاريخ من جهة، وسوء النية والتخادم الطائفي من جهة أخرى.

يبدأ الفيلم بلقطات من الهجمات الحوثية على السفن التجارية والمدنية في البحر الأحمر، مع تعليق صوتي من وسائل إعلام عالمية. ثم تختفي اللقطات ليظهر صوت المذيع قائلاً: “صراع قديم متجدد في أحد أهم ممرات العالم”، قبل أن يظهر عنوان البرنامج: “اليمن وإسرائيل: جذور الصراع”.

عندما يقول المذيع “الصراع بين اليمن وإسرائيل” بدلًا من “الصراع بين الحوثيين وإسرائيل”، فإنه يقدّم الحدث على أنه مواجهة بين دولتين شرعيتين، مما يمنح الحوثيين شرعية ضمنية لتمثيل الدولة اليمنية. في المقابل، عند استخدام عبارة “الصراع بين الحوثيين وإسرائيل”، يُصوَّر الحدث على أنه صراع بين جماعة مسلحة غير رسمية ودولة أخرى، ما يغيّر تمامًا إدراك الجمهور لطبيعة الأطراف المشاركة في الصراع.

هذا مثال واضح على التأطير الإعلامي (Media Framing)، وكيف يمكن لوسائل الإعلام من خلال اختيار الكلمات والتوصيفات أن تؤثر في فهم الجمهور للأحداث، وتحدد ما يُنظر إليه على أنه شرعي أو مركزي في النزاع.

لكن البرنامج قدّم ما هو أخطر عبر سرديته التاريخية، منتقلاً من الدعاية اليومية التي اعتدنا عليها من قناة الجزيرة إلى إعادة كتابة التاريخ.

فعندما يحاول المذيع تصوير الصراع بين اليمن وإسرائيل على أنه قديم وممتد تاريخيًا، مستخدما التأطير السردي (Narrative Framing)، الذي يحوّل الحدث من مواجهة سياسية آنية إلى صراع ذي جذور تاريخية وأبعاد أيديولوجية. ومن خلال عبارات مثل “منذ عقود” أو “الصراع المستمر  او التاريخي..”، يعيد المذيع إنتاج الحدث كامتداد لصراعات سابقة، مانحًا الحوثيين شرعية تاريخية زائفة ويعزز صورة الصراع كأنه جزء من سردية بطولية يمنية–عربية ضد إسرائيل تقودها الميليشيا.

الكل يعرف، بما فيهم المذيع البسيط وطيب القلب، أنه ليس هناك صراع عسكري تاريخي مباشر بين اليمن وإسرائيل. فموقف اليمن من إسرائيل كان متسقًا مع موقف الدول العربية الداعمة للحق الفلسطيني. والهجمات الارهابية الحوثية في البحر الاحمر أدانتها الحكومة الشرعيةويرفضها أغلب اليمنيين لأنها ضد اليمنيين وضد القانون الدولي ولأن هدفها ليس غزة وانما تقديم باب المندب هدية لإيران.

ومن يتجاهل هذا يروج للأجندة الإيرانية والحوثية، وامتداد لما تبثّه وتروّجه الآلة الإعلامية القطرية منذ عام 2017، بعد خروج قطر من التحالف العربي وانضمامها للمحور الإيراني–الحوثي.

………

ثانيًا: الأخطاء التاريخية بين الجهل وسوء النية

الأخطاء التاريخية في البرنامج بالعشرات، وسأكتفي في هذه الحلقة بأهمها، ليس لقيمة البرنامج الفنية، بل لخطورته الدعائية.

يظهر الصحفي الجديد جمال المليكي في مشهد داخل ما يبدو أنه مخزن أرشيف قديم، بإضاءة خافتة وموسيقى درامية متوترة، قائلًا: “على مدى شهور، غصنا بين أرشيف ووثائق يعود تاريخها إلى 80 عامًا.” لكن المضحك أن جميع المعلومات التي يدّعي أنها “سرّية” معلنة ومتاحة على الإنترنت، ويعرفها أي قارئ لتاريخ “المرتزقة الدوليين” الذين جندتهم بريطانيا بدعم سعودي لمحاربة الثورة اليمنية والجيش المصري. وربما يعود هذا الخلل إلى محدودية معرفة الصحفي بالتاريخ.

الخطأ الفاضح الأول هو تصوير البرنامج موافقة إسرائيل على نقل الأسلحة جوًا للملكيين بأنها كانت بدافع “الصراع على باب المندب”. وهذا جهل بأبسط حقائق الثورة اليمنية والصراع على البحر الأحمر. تدخلت إسرائيل بدفع بريطاني، ضمن صراعها مع مصر ورغبتها في توريط عبد الناصر في حرب طويلة في اليمن لتجنّب مواجهة مباشرة على حدودها. لم يكن لباب المندب أي علاقة بذلك.

كما يخلط الصحفي بين الاهتمام الإسرائيلي بالبحر الأحمر والاهتمام بباب المندب، والفارق كبير. حتى عام 1967 كان الصراع بين إسرائيل ومصر يدور حول مضيق تيران وخليج العقبة، ولم يبرز باب المندب كعامل استراتيجي إلا بعد نكسة 1967.

في ذلك الوقت، كان اهتمام إسرائيل بالبحر الأحمر منصبًا على مينائي إيلات والعقبة وبقائهما مفتوحين للملاحة الدولية. أرادت إسرائيل، إذًا، محاربة مصر في اليمن، وكان الصراع مصريًا–إسرائيليًا على أرض يمنية، لا صراعًا بين اليمن وإسرائيل. وهذا ينسف السردية الحوثية التي يحاول البرنامج ترسيخها، بأن هناك صراعًا عسكريًا “يمنيًا–إسرائيليًا” ممتدًا منذ الستينات، وأن الحوثيين اليوم هم “ورثة” هذا الصراع التاريخي.

ومن الأخطاء الفادحة الأخرى قول المذيع إن تلك كانت أول عملية عسكرية إسرائيلية خارج نطاقها الجغرافي، وهو خطأ تاريخي جسيم. فالهدف من ترويج هذه الكذبة هو دعم السردية الحوثية حول “استهداف إسرائيلي–أمريكي تاريخي لليمن”.

في الحقيقة، كانت أول عملية عسكرية إسرائيلية خارج نطاقها الجغرافي في شبه جزيرة سيناء خلال حرب 1948، في عملية “حوريف” (Operation Horev)، حيث توغلت القوات الإسرائيلية داخل شمال سيناء حتى قرب العريش، كما تدخلت إسرائيل عسكريًا في الضفة الغربية التي كانت تحت سيطرة الأردن.

أما الاجتماع الذي قال البرنامج إنه تم في أكتوبر 1962، فلم يُعقد إلا في صيف 1963، وفكرة “الجسر الجوي” لم تُحسم إلا بعد هذا التاريخ. ورغم أن جميع ضيوف البرنامج أكدوا أن هدف إسرائيل كان الانتقام من عبد الناصر في اليمن، إلا أن المذيع انساق وراء سرديته الأيديولوجية الموجَّهة، ليختلق صراعًا “تاريخيًا” يمنيًا–إسرائيليًا بدأ مع قادة ثورة سبتمبر واستمر – حسب إيحاءات البرنامج – في الميليشيا الطائفية الحوثية.

يمضي البرنامج في تلفيق سردية صراع غير موجودة عبر ادعاء أن اليمن، وخاصة اليمن الجنوبي، قدّم دعمًا عسكريًا مباشرًا للفلسطينيين لمهاجمة السفن الإسرائيلية من الأراضي اليمنية. كمية الجهل والتلفيق في هذا الجزء غير معقولة.

فهو يخلط بجهل بين مرحلتين: ما قبل خروج الفلسطينيين من بيروت عام 1982، ومرحلة ما بعدها حين استقر بعضهم في عدن. قبل ذلك، كان وجود الفصائل الفلسطينية في الجنوب محدودًا، واقتصر دعم الحكومة اليمنية الجنوبية على الفصائل اليسارية فقط كالجبهة الشعبية وفي الجانب التدريبي فقط دون ان يسمح لها باستخدام الاراضي اليمنية لاي عمليات. 

لكن المذيع يحاول إعادة صياغة التاريخ بأسلوب يخدم السردية الحوثية، فيصور أن الهجمات على السفن – كما يفعل الحوثيون اليوم – هي امتداد “تاريخي” لدعم يمني رسمي للهجمات المسلحة في البحر الاحمر منذ السبعينات.

ويستشهد المذيع بعملية الهجوم على السفينة “كورال سي” عام 1971 قرب جزيرة بريم، ليزعم أن الحكومة اليمنية الجنوبية كانت على علم بالعملية وسمحت بها (تركز الدعاية الحوثية على عملية كورال سي وتصور عنلياتها ضد السفن التجارية كامتداد لها). 

إلا أن هذا الادعاء تزييف ساذج للتاريخ. فقد أدانت حكومة اليمن الجنوبي العملية رسميًا، ونفت علمها بها، بل اتهمت إسرائيل نفسها بتنفيذها عبر جواسيسها لاختلاق مبرر لتواجد عسكري في باب المندب (وهو ما تجاهله المذيع غفلة او عمدا).

كان موقف حكومة اليمن الجنوبي واضحًا في رفض أي مغامرات عسكرية تُطلق من أراضيها. وعندما اختطف فدائيون فلسطينيون طائرة ألمانية عام 1972 وتوجهوا بها إلى عدن، رفضت الحكومة تمامًا ما حدث، وأجبرت الخاطفين على إطلاق الطائرة والرهائن فورًا. ومع ذلك، ينتقي المذيع عناوين صحف توحي بأن الحكومة اليمنية كانت “داعمة” لتلك المغامرة الغبية التي اضرت بالقضية الفلسطينية.

تجاهل المذيع أيضًا بيان الجبهة الشعبية نفسها الذي أكد أن العملية تمت عبر خلاياها في خليج العقبة وعبر تواجد سري لمقاتليها في جزيرة حنيش، دون أي ذكر لدور رسمي يمني.

هدف الرئيس الحمدي، الذي حاول البرنامج تشويهه أيضا، كان إخراج باب المندب من الصراع الدولي ووضعه تحت سيادة الدول المطلة، وهو عكس ما يريده الحوثيون الذين وضعوا باب المندب في اليد الإيرانية وحولوه الى أداة تفاوضية بيد نظام الملالي. 

هذه الأخطاء والتلفيقات والفضائح التي وردت خلال أقل من خمس دقائق من البرنامج ليست إلا 20% من مجمل أخطائه وتزويره للتاريخ.

وكما بدأ البرنامج الدعائي بالهجمات الحوثية ينتهي بها مع تعليق خبري لوسيلة اجنبية ينقل تهديد اسرائيل للميليشا الحوثية بانها ستدفع ثمنا باهظا .والهدف الدعائي تأكيد السردية الحوثية انها تدفع ثمنا باهظا نتيجة موقفها الداعم للقضية، وأن هذا الدعم امتداد لصراع تاريخي طويل تتزعمه الحوثية اليوم. يكمل البرنامج اعادة كتابة التاريخ اليمني من وجهة نظر طائفية تضع الحوثية في قمة القرار الوطني وتصورها في نزعة هيجلية  كأعلى تجليات الروح الوطنية والثورية.

 لا يمكن النظر إلى برنامج المتحري على أنه مجرد عمل إعلامي عابر، بل هو أداة دعائية منظمة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي اليمني، وترويج رواية تاريخية مزيفة تخدم المشروع الحوثي والإيراني في المنطقة. الأخطاء التاريخية، والتأطير الإعلامي المضلل، والانتقائية في المصادر ليست مجرد زلات مهنية، بل تعبير عن توجه سياسي واعٍ يراد منه شرعنة جماعة انقلابية ومنحها غطاءً وطنياً زائفاً.

وهنا تكمن مسؤولية الباحثين والإعلاميين في تفنيد هذه السرديات وكشف زيفها بالحقائق والوثائق، دفاعاً عن الذاكرة الوطنية اليمنية من محاولات التحريف والتشويه.

فالتاريخ اليمني لا يُكتب من غرف التحرير في الدوحة أو طهران، بل من ذاكرة شعبه، ومن تضحيات المخلصين ليمنيتهم الذين رفضوا أن يُختزل وطنهم في مشروع طائفي أو أجندة خارجية.

الحلقة القادمة تستكمل الاخطاء والأهداف الدعائية للبرنامج وللقناة.

من صفحة الكاتب على الفيسبوك