كانت الوحدة اليمنية بين شمال اليمن وجنوبه في 30 من نوفمبر 1990م، قد خلقت أول فرصة تاريخية لليمنيين فيما يتعلق بإمكانية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، بحيث بدأ اليمنيون مع هكذا فرصة تاريخية/ وطنية/ وحدوية/ قادرين على أن يحولوا بلادهم المتعثرة في ظل التشطير السياسي والاجتماعي والصراعات البينية إلى وطن للتعايش السياسي الوطني وحتى العيش الكريم.
خصوصاً وأن ذهاب الشمال والجنوب إلى دولة الوحدة اليمنية، كان قد حدث في ظل المراجعات السياسية النقدية الصادرة يومها من قبل العقل السياسي الحزبي الحاكم في الجنوب، ناهيك أن مثل هذه المراجعات السياسية النقدية تجاه تجربة الحكم بدأت قادرة على طرح الأسئلة الوطنية، وتحديداً بعد أحداث 13 يناير 1986م الكارثية التي عبرت في إحدى مظاهرها عن ضيق القيادة السياسية الحزبية بثقافة العقل السياسي الحزبي.
وذلك مكن العقل السياسي التاريخي الجهوي من الحضور السياسي وممارسة دوره في قلب الصراع والاقتتال في أحداث يناير 1986م، إلا أنه لم يتمكن من السيطرة على مقاليد السلطة الحاكمة كما حدث في الشمال لأن التنظيم السياسي الحزبي كان أقوى حضورا وتجذرا على المستوى السياسي والثقافي داخل بنية السلطة ومؤسسات الدولة في الجنوب.
وبرغم كارثية أحداث يناير إلا أنها طرحت على طاولة السلطة (بشكل جاد ومسؤول) الأسئلة الوطنية المتعلقة بالآخر السياسي وبالديمقراطية والتعددية السياسية، وهذا في واقع الحال كان يعني فض حالة الاشتباك القائمة منذ الاستقلال الوطني بين سلطة الحزب السياسي وحكومته السياسية وبين سلطة الدولة الحاكمة وحضورها ككيان سياسي وقانوني بالمعنى الوطني.
وإذا كان الاستبداد السياسي وعدم الاعتراف بالآخر داخل المجال السياسي في الشمال والجنوب على حد سواء، قد مثلا جذر الصراع السياسي وحتى الاقتتال العسكري في ظل الجمهورية على مستوى الشطرين.. فإن المرجعيات السياسية للوحدة اليمنية كانت هي المعنية بإحداث القطيعة السياسية والاجتماعية والثقافية والدستورية القانونية مع مساوئ تجربة التشطير بالمعنى الذي يجعل اليمنيين في ظل الوحدة اليمنية ليس أمام دولة موحدة جغرافياً كما لم يحدث ذلك معهم منذ قرون طويلة، بل فوق ذلك يجعلهم خاضعين سياسياً لسلطة الدولة الوطنية الديمقراطية التي تجعل منهم مصدر السلطة السياسية فيها.
وعلى هذا الأساس إذا كان وجود الدولة الوطنية الديمقراطية يجعل منها مجمل الحلول للمشكلة اليمنية، فإن مرد ذلك يعود في الأساس إلى حقيقة أن السلطة السياسية في ظل هذه الدولة تتأسس مع كل دورة انتخابية على طريقة "عد رؤوس المواطنين وليس عن طريق قطعها" وهذا بحد ذاته يجعل المجال السياسي والاجتماعي خاليا من مشكلة الاحتقان والإقصاء، بعكس ما كان يحدث في ظل النظام الجمهوري للشطرين وما قبل ذلك.
غير أن ذلك لا يعني عدم التعويل على أهمية الفارق فيما يتعلق بماهية الجهاز المفاهيمي "القيمي" الذي كان ينفخ روح العصبيوية الممانعة في وجه الدولة الوطنية الديمقراطية على المستوى السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي، أي الفرق بين سلطة القبيلة السياسية الحاكمة في الشمال وسلطة الحزب السياسي الحاكم في الجنوب.
خصوصاً وأن السلطتين في شمال اليمن وجنوبها هما اللتان وقعتا على المرجعيات السياسية للوحدة اليمنية في 1990، بل أصبحت ملزمة في مسألة تطبيق نصوص هذه المرجعيات السياسية الوحدوية على صعيد الواقع العملي وتحويل هذا الأخير إلى واقع يعكس حضور الدولة الوطنية الديمقراطية.
إذن، محنة الوحدة اليمنية مع الممانعة المتعلقة ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية في اليمن تأسست على إشكالية السلطة التاريخية وامتدادها السياسي والثقافي الموجود في ظل الوحدة اليمنية بغض النظر عن نجاعة المرجعيات السياسية المؤسسة للوحدة اليمنية والموقع عليها من قبل الطرفين.
هذا يعني أن السلطة السياسية في ظل جهازها المفاهيمي كانت هي المعنية في تجاوز مشكلتها التاريخية، أي أن السلطة السياسية (سلطة القبيلة السياسية وسلطة الحزب) كانت هي المكلفة في خلق الدولة الوطنية الديمقراطية!
ولم تكن هذه الأخيرة نتاجا لتطور الوعي المجتمعي وصيرورته التاريخية/ الوطنية / تجاه المسألة السياسية، أو نتاجا لحضور الشعب السياسي كطرف أصيل في معركة التغيير، بالمعنى الذي يعني أن كفاح المجتمع أو الشعب هو الذي فرض قيام الدولة الوطنية الديمقراطية رغم أنف السلطة الحاكمة كما حدث في التجربة الأوروبية التي جعلت فكرة الدولة مسألة نضالية في وجه السلطة المستبدة، أو كما هو حال الحراك الجماهيري في ثورة الشباب التي فرضت توجهات سياسية ومطالب جماهيرية في معادلة صراع مع السلطة الحاكمة، قبل أن تنقلب هذه الأخيرة على مخرجات الحوار الوطني الشامل.
صحيح أن تكليف السلطة الحاكمة (القادمة من تجربة التشطير بكل حمولتها السياسية والثقافية) في مسألة خلق الدولة الوطنية الديمقراطية، ونجاحها لم يكن شيئا مستحيلا في ظل العمل بنظرية إحراق المراحل التاريخية، خصوصاً وأن ذلك كان ملزما بقوة المرجعيات السياسية للوحدة اليمنية الموقع عليها من قبل السلطتين في شمال اليمن وجنوبه.
إلا أن نجاح ذلك كان وما يزال حتى اليوم مرتبطا بالسؤال الموضوعي المتعلق بنجاعة التحول والتأهيل الوطني للجهاز المفاهيمي للسلطة، لا سيما بالمعنى الذي يعني أن السلطة المكلفة في ظل الوحدة اليمنية بأن تتحول إلى دولة وطنية، قد أصبحت قابلة سياسياً وثقافياً بأن تسلم مقاليدها وزمام قرارها السياسي لسلطة الدولة الوطنية الديمقراطية.
الأمر الذي يؤكد مع هكذا تحول بأن السلطة لم تعد معنية في ظل ثقافتها الوطنية بأن تسلم مقاليدها وزمام قرارها السياسي والعسكري للحاكمين على رأسها سواءً كان ذلك بأشخاصهم الطبيعية وحتى المعنوية كما كان الحال في زمن التشطير السياسي مع سلطة القبيلة السياسية وفي ظل دولة الحزب الحاكم.
وبناءً على هذا التوصيف المتعلق بجدلية السلطة والدولة في ظل الوحدة، نستطيع القول بأن الإجابة على السؤال المتعلق بتعثر قيام الدولة الوطنية الديمقراطية في ظل الوحدة اليمنية تبدأ من نقطة السؤال القائل:- هل كانت القبيلة السياسية القادمة من الشمال إلى دولة الوحدة والحزب الاشتراكي اليمني القادم من الجنوب إلى دولة الوحدة، قد أصبحوا مؤهلين ثقافياً ووطنياً بالشكل الذي يجعل الطرفين على استعداد للتنازل ووضع مقاليد السلطة في يد الدولة الوطنية الديمقراطية؟
ناهيك عن حقيقة أن حضور الدولة الوطنية الديمقراطية "الحاكمة" على حساب السلطة السياسية، كان يعني حضور سلطة العقل السياسي الحزبي على حساب سلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن.
لهذا وذاك نجد أن مكونات وتعبيرات العقل السياسي التاريخي وجدت نفسها في ظل تحالفات سياسية حريصة على أن تمارس فعلاً سياسياً وثقافياً يعيق بناء دولة الوحدة على أساس المرجعيات السياسية للوحدة اليمنية والتي تم التوقيع عليها من قِبل قيادة المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني.