فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

مدخل تاريخي في تكوين العقل السياسي الحزبي "الحاكم" في جنوب اليمن

Saturday 02 July 2022 الساعة 08:47 am

في عام 1959م وتحديداً في منطقة الشيخ عثمان تأسست أول خلية سياسية تنظيمية لحركة القوميين العرب فرع الجنوب، على يد فيصل عبداللطيف الشعبي وسلطان أحمد عمر وعبد الملك اسماعيل، وهو نفس العام الذي تأسس فيه فرع الحركة في شمال اليمن في مدينة تعز على يد يحيى عبدالرحمن الإرياني، مع سلطان أحمد عمر الذي عاد من عدن إلى تعز لهذا الغرض، وقد كان تأسيس حركة القوميين العرب في اليمن عام 1959م بناءً على تكليف رسمي صادر من القيادة المركزية للحركة (الأم) لهؤلاء الأربعة الطلاب الذين استقطبوا إلى صفوف الحركة أثناء دراستهم الجامعية في جمهورية مصر العربية.

تجمع العديد من المراجع أن أول اثنين تم تحزيبهما سياسياً إلى حركة القوميين العرب من الطلاب اليمنيين هما فيصل عبداللطيف الشعبي وسلطان أحمد عمر في النصف الثاني من عقد الخمسينات، وقد عاد الاثنان في عام 1957م إلى مدينة عدن بهدف التبشير السياسي والايديولوجي لحركة القوميين العرب التي تأسست في لبنان على أدبيات الفكر القومي العروبي في عام 1948م على إثر نكبة فلسطين، واحتلال أراضيها من قبل الكيان الصهيوني.

بناءً على -صدور- التكليف لهؤلاء الأربعة اليمنيين من قبل القيادة المركزية لحركة القوميين العرب في بيروت، تشكل فرع حركة القوميين العرب في الجنوب وكان أبرز أعضاء الحركة أثناء التأسيس عبدالفتاح اسماعيل ومقبل وعلي سالم البيض وسالمين وعلي ناصر ومطيع وغيرهم وكان أبرز أعضائها في الشمال مالك الارياني وعبدالحافظ قائد وعبدالقادر سعيد، وعبدالرحمن محمد سعيد وغيرهم، وعلى نفس المنوال كان حزب البعث قد تأسس في الشمال والجنوب على حد سواء. هكذا تسرب العقل السياسي الحزبي إلى داخل اليمن عن طريق جيل من الشباب والطلاب عسكريين ومدنيين، إلا أن مدينة عدن على وجه التحديد كانت قد شهدت قبل مجيئ الحركيين وبعدهم تأسيس أحزاب سياسية أبرزهم رابطة أبناء عدن التي تحولت إلى رابطة أبناء الجنوب بقيادة الجفري، وحزب الشعب الاشتراكي بقيادة عبدالله الأصنج ومحمد سالم باسندوه وحزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي ذو التوجه الماركسي بقيادة عبد الله باذيب.

ما بدا لافتا للأنظار أن حركة القوميين العرب التي تأسست في عام 1959م، في حي الشيخ عثمان، أصبحت بشكل غير متوقع قادرة على الانتشار والتأثير في صفوف الشباب والطلاب والحركات الثورية والمنظمات العمالية، والنقابات والطلائع، بل توسع انتشارها سياسياً وتنظيمياً بشكل كبير داخل السلطنات والمشيخات الجنوبية التي كانت خاضعة لسلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن، لهذا نستطيع القول إن حركة القوميين العرب فرع الجنوب كانت يومها الحزب السياسي الوحيد الذي شكل سياسياً وتنظيمياً حالة امتداد وطني وثوري داخل المكون الإنساني في جنوب اليمن، أي أن حركة القوميين العرب وجدت في مدينة عدن وانتشرت بعد ذلك بشكل سريع وفاعل في المحافظات الجنوبية وفي أريافها، ما يعني في النتيجة أن العقل السياسي الحزبي الطامح في حكم مستقبل اليمن، أصبح مع تنظيم حركة القوميين العرب في نهاية الخمسينات وبداية الستينيات من القرن الماضي، أكثر قدرة واستعدادا سياسيا وثقافيا فيما يتعلق بإدارة معركة الثورة والتغيير في اليمن، وقد تجلى مثال على ذلك الاقتدار السياسي والثوري في حشد أفواج الحزبيين المنتمين عضوياً لحركة القوميين العرب على مستوى الشطرين في خوض معركة الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر بعد تفجيرها وكذلك في اندلاع ثورة 14 أكتوبر التي فجرها العقل السياسي الحزبي في عام 1963م من جبال ردفان.

بطبيعة مكونها الإنساني والجغرافي وكذلك الظروف المحيطة بها، شكلت عدن الوعاء الثقافي الذي تخلق في داخله العقل السياسي الحزبي الطامح في حكم مستقبل اليمن، فقد شهدت مدينة عدن منذ الأربعينات من القرن الماضي نشوء حالة من الوعي السياسي المكثف، وهو ما انعكس إيجابياً في تأسيس أحزاب سياسية بغلت خمسة عشر حزباً سياسيا، ناهيك عن منظمات جماهيرية، ونقابات ومؤتمرات عمالية وحتى أندية ثقافية ورياضية، وصحف وكليات، بل شهدت مدينة عدن انتخابات تشريعية برلمانية على إثرها تشكلت حكومة عدن، إلا أن سلطة الاستعمار حرصت على عدم مشاركة أبناء الشطر الشمالي الموجودين في مدينة عدن في تلك الانتخابات على اعتبار أن هؤلاء ليسوا مواطنين جنوبيين، ما يعني سياسياً أن الشماليين من سكان دولة أخرى، أي تكريس ثقافة الانفصال بين شمال اليمن وجنوبه على أساس إنكار الهوية اليمنية للجنوب وتحويل جنوب اليمن إلى جنوب عربي -الهويات المفتعلة على حد وصف الباحث قادري أحمد حيدر.

عطفاً على ما سبق ذكره كان العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن، سيما في الشطر الجنوبي يسير في فلك الاستعمار البريطاني بحيث قبل مسمى "دولة اتحاد الجنوب العربي" كمسمى سياسي جامع للسلطنات والمشيخيات والإمارات الجنوبية، بل أراد الاستعمار البريطاني أن يكون لدولة اتحاد الجنوب العربي ممثل في جامعة الدول العربية، وفي المقابل كان العقل السياسي الحزبي الذي ساعدته مدينة عدن على التكوين السياسي، يرفض مسألة الاعتراف بهذه الهويات السياسية المفتعلة، فعلى سبيل المثال نجد أن الأحزاب السياسية في عدن قاطعت عملية المشاركة في الانتخابات التشريعية التي تحرم أبناء الشمال من المشاركة فيها، وعندما غامرت رابطة أبناء الجنوب وشاركت في الانتخابات، غادر من داخلها العديد من القيادات السياسية، وكان أبرز هؤلاء القادة الذين غادروا رابطة أبناء الجنوب، السياسي البارز قحطان محمد الشعبي، ليتم بعد ذلك تنسيبه "حزبياً" إلى صفوف حركة القوميين العرب على يد هشام العبدالله مسؤول فرع الحركة في القاهرة أثناء ما كان قحطان الشعبي لاجئاً سياسياً فيها. 

بدون شك مثل هذا الانتساب الحزبي للمناضل قحطان الشعبي إلى صفوف حركة القوميين العرب مكسبا سياسيا كبيرا بحيث أصبح قحطان محمد الشعبي أكبر أعضاء حركة القوميين العرب في اليمن "سناً وتجربة سياسية" وهو ما جعله مؤهلاً لقيادة حركة القوميين على المستوى السياسي والثوري في جنوب اليمن، مع أن فيصل الشعبي ظل تنظيمياً وحزبياً هو الرجل الأول، المعني بالتواصل الحزبي مع القيادة المركزية لحركة القوميين العرب في بيروت.

مع اندلاع ثورة ال26 من سبتمبر 1962 في الشمال كانت فكرة الثورة المسلحة في جنوب اليمن قد اختمرت بشكل نهائي لدى حركة القوميين العرب في اليمن، الأمر الذي دفعها للتواصل مع قيادتها المركزية (الأم) لكي تتولى هذه الأخيرة مسألة التواصل السري مع الزعيم القائد جمال عبد الناصر بخصوص استعداد الحركة للقيام بثورة مسلحة ضد الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، لا سيما وقد كانت العلاقة السياسية بين جمال عبد الناصر وقيادة الحركة المركزية علاقة جيدة، للدرجة التي كانت فيها حركة القوميين العرب على مستوى الوطن العربي تعتبر أن السلطة السياسية لثورة يونيو المصرية هي واجهتها السياسية، سيما وقد رفعت سلطة الثورة المصرية بقيادة ناصر مشروع القومية العربية في وجه الكيان الإسرائيلي الغاصب وفي وجه قوى الاستعمار والامبريالية العالمية وحتى في وجه الرجعية العربية، وهو ما دفعها للتدخل إلى جانب ثورة الضباط الأحرار في شمال اليمن.

بعد أن نجحت القياده السياسية المركزية للحركة (جورج حبش هاني الهندي محسن ابراهيم) في التواصل مع الزعيم ناصر، ناهيك عن تواصل قيادة الحركة في الداخل مع سلطة الثورة في شمال اليمن، تمثلت أول الخطوات التحضيرية للعمل الثوري المسلح في استقدام المناضل قحطان محمد الشعبي من مقر إقامته في القاهرة، وتعيينه في صنعاء مستشارا سياسيا «للرئيس السلال» لشؤون الجنوب اليمني، وقد أثار هذا القرار حفيظة بعض الأحزاب السياسية الجنوبية مثل حزب البعث، وحزب رابطة أبناء الجنوب، وحزب الشعب الاشتراكي، سيما وأن الرابطة وحزب الشعب كان لهما موقف حاد ضد خيار الكفاح المسلح، بل إن حزب الشعب الاشتراكي أصدر كتيب يشرح موقفه السياسي الرافض لخيار الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني، مع أن حركة القوميين العرب كانت حريصة على أن يتم اتخاذ قرار الكفاح المسلح من قبل جميع الأحزاب السياسية في جنوب اليمن، وليس من قبل حزب سياسي واحد، لهذا بذلت الحركة جهودا سياسية لم توفق فيها في سبيل إقناع الأحزاب السياسية الفاعلة في الذهاب إلى اتخاذ خيار الكفاح المسلح، كما يذكر ذلك صاحب كتاب النجم الأحمر فوق اليمن.

بتوجيه سياسي مدروس من قبل فرع حركة القوميين العرب في الشمال، أقدم المناضل قحطان محمد الشعبي مستشار الرئيس لشؤون الجنوب، على دعوة الجنوبيين لعقد اجتماع موسع وعلى وجه التحديد الذين كانوا يخوضون في شمال اليمن معركة الدفاع عن ثورة سبتمبر، وقد عقد هذا الاجتماع في 24 فبراير 1963م في دار السعادة بالعاصمة صنعاء، وحضره العديد من القيادات الجنوبية من مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية، بحيث نتج عن هذا الاجتماع اختيار لجنة تحضيرية وميثاق تأسيس جبهة مسلحة تتولى قيادة الثورة في جنوب اليمن، وقد كتب مقدمة الميثاق سلطان أحمد عمر وشارك في صياغة بنوده عبدالحافظ قائد وقحطان الشعبي.