"عقلان" رواية معرفية تتقصى إيقاع مجتمع جنوب شبه جزيرة العرب
السياسية - Saturday 04 April 2020 الساعة 08:31 am
خمسمائة صفحة من الحجم الكبير "رواية عقلان" صادرة عن مؤسسة أروقة في القاهرة 2020، للشاعر اليمني محمد عبده الشجاع، الذي سبق له أن أصدر ديواني شعر، وله مشاركات متنوعة في الكتابة الإبداعية والإعلامية.
الشجاع بهذا العمل يضيف إلى المشهد الإبداعي اليمني إضافة نوعية بضخامته وتعمقه في روح المجتمع. حيث توزع العمل إلى جزأين؛ "اشتات فصول" عنوان الجزء الأول، و"عكاز في الظل" الجزء الثاني، ويندرج تحت كل عنوان عدة عناوين فرعية.. توزعت إلى أجزاء متفاوتة ومرقمة.
المكان الريف اليمن، ومحور الرواية الرئيسي الصراع بين جنوب اليمن وشماله، المتمثل في تمدد الجبهة الوطنية وتهديد بإسقاط سلطة صنعاء كذراع لسلطة عدن في الشمال، لتتجه السلطة في صنعاء لدعم جماعات الإخوان والسلف لمواجهة المد الاشتراكي الوحدوي.
حينها عاش اليمن في صراع سنوات عجاف. كما ترصد الرواية أثر ذلك الصراع على المجتمع من خلال شخصيات الرواية المنقسمة بين مؤيد وضد.
إلى جانب محور الرواية الرئيسي تعددت ثيمات العمل وتنوعت، مثل ثيمة وضع المرأة وما تعانيه من صنوف العذاب ككائن مسحوق، مقابل تسلط الرجل الذي أعطته الدين والأعراف موقعا شبه مطلق الصلاحيات عليها.
إضافة إلى ثيمة الصراع بين الخرافة والتنوير من خلال شخصيات اجتماعية تدافع عن مصالحها. وتذكي روح الصراع المجتمعي بما يخدم بقاء هيمنتها.
وثيمات كثيرة استطاع الكاتب مناقشة قضايا جانبية إلا أنها من حيث الأهمية تستحق كل منها عملا روائيا منفصلا، لنرى بعينه ونسمع بمسامعه حياة الريف اليمني بإيقاع بطيء ومشوق.
الكاتب فنان التفاصيل الصغيرة.. إذ إننا نشعر أثناء القراءة ببساطة سرده وتعدد زوايا تناوله لمجتمع بسيط.. وتلك الخلافات والتداخلات الاجتماعية التي عالجها بروح الفنان.. والسارد المتمكن.
الرواية تعج بأسماء شخصيات عديدة.. منها الشخصيات المركبة كالشيخ عماد.. والصوفي.. ومنها النمطي.. وفي ظل توالد تلك الشخصيات.. نجد معظمها تختفي بعد أن تنتهي أدوارها.. ولا يبقى منها إلا القلة وهي الشخصيات الرئيسة.. ولكل شخصية دورها في أحداث ونسيج الرواية الزاهي.
الكاتب لا يكتفي بسرد الأحداث، أو صياغة الوصف الطبيعة الخلابة وتلك الشخصيات المتنوعة، بل يقدم في ثنايا روايته معرفة حقيقية.
ولذلك نستطيع تصنيف هذه الرواية بالرواية المعرفية.. فهي شبيهة بسفر أنثر بلوجي لمجتمع نائي.. يتعرف المتلقي على تفاصيل التفاصيل في العلاقة بين طبقات المجتمع اليمني من الشيخ وهو أعلى سلطة في القبيلة، إلى المزين وبسطاء الناس، تلك الشرائح التي تعيش شبه مهمشة ضمن علاقات وتفاعلات شرائح المجتمع.
الكاتب لديه قدرة سردية لافتة، ليقدم عملا وينسج تلك الأحداث المتداخلة بين الشخصيات المتناثرة؛ التي يظن القارئ بأن الكاتب سينسى إحداها، أو أن حدثا قد ذكر في صفحات سابقة لن يظهر أثره لاحقاً بعد انتقال الكاتب إلى أحداث متقدمة، ليكتشف بأن الكاتب لا تضيع منه شاردة ولا واردة، وأنه يمسك بجميع خيوط الأسماء والأحداث، وينسجها بمتعة ليتذوقها المتلقي بمتعة المستكشف.
وهذا ما يعنيني من الناحية الفنية التي يتميز بامتلاك كتبنا للكثير من الاعيبها.. ما يمنح المتلقي مزيدا من التشويق الممتع.
تسيطر على مجريات الأحداث تداخل العلاقات.. ابتداءً من رأس الهرم القبلي.. الشيخ مرورا بالمتعلمين من فقهاء ومثقفين إلى إمام المسجد ومقرئ الصبية.. إلى عوام المجتمع.
وما زاد هذا العمل عمقا حين رصد تلك العلاقة الرومنسية التي تنشأ في مجتمع منغلق ومحافظ، فنرى كم هي مؤثرة تلك العلاقات ومسيرة له، خاصة حين يكشف أن الشيخ يقع في المحور مع وارثة.
لم يكتف الكاتب بالعلاقات المجتمعية الريفية.. ذاهبا إلى العلاقة المشحونة بين سلطتي الوطن عدن وصنعاء.. حين تطفو على سطح الأحداث تلك الملاحقات بين العسكر والمناوئين. ليتعرف القارئ إلى كثير مما كان التي قادت الشطرين من التشتت والاحتراب إلى وحدة منقوصة.. لم يمتد زمن الرواية ليشملها.
رواية تؤرخ بتخييل ممتع لعقدين من تاريخ اليمن الاجتماعي والسياسي، مبينا من استقر ومن هاجر في سبيل لقمة العيش، كما هو زوج وارثة التي توضح رسالته؛ وضع المغترب في جنوب السعودية وهو يصف لها معاناته، بعد تسجيل صوته في شريط كاسيت.. وأرسله يمنيها بغد أكثر استقرارا.
تأثث الكاتب روايته بنصوص للسياب والجواهري ونصوص شعرية لكثير من الشعراء ومنهم الكاتب نفسه.. لتمنح تلك الأبيات أجواء الرواية أبعادا من جمالية وبلاغية محببة.
يمتلك الكاتب لغة باذخة هي لغة الصورة السردية، وقد تجلت في الصفحات الأولى وحتى الخامسة عشرة، بعدها بدأ يمخر عباب سرد الأحداث وكأنه ينتقل بين عملين بخطابين مختلفين.
الرواية سيرة وطن، وما نعيشه اليوم هو نتاج لتلك الأحداث؛ التي اتخذ الكاتب للريف قاعدة ليتطور سرده، حتى ذلك الصراع الدموي بين السلطة ومرتزقتها كما يصفهم من جهة. ومن جهة ثانية عناصر الجبهة الوطنية.
لم ينحَز الكاتب طيلة صفحات الرواية إلى طرف من أطراف الصراع اليمني، أو إلى شريحة من شرائح المجتمع التي تمثلها تلك الشخصيات الحيوية، بل بدت الآراء وتلك العلاقات مجردة، نابعة من قناعات شخصيات العمل وردود أفعالها.
"هذا العام كان حافلا بالأحداث.. ففيه حدث زلزال هز البلاد كلها.. وفيه وصل الجوهري إلى صنعاء..." إلى أن يقول في نفس الصفحة "الحكم بالسجن عشر سنوات في صنعاء على وزير الخارجية السابق عبدالله الأصنج... وفاة الفضول... وصول ياسر عرفات...".
ما يعطي القارئ تطور الأحداث من خلال تلك المعطيات.
المكان والزمان من أهم خصائص الرواية، إضافة لورود أسماء شخصيات العمل الدالة على وعي المجتمع ومكانته، تلك الشخصيات التي تحرك أحداث الرواية.. ومنها: عبد الغني.. حمود.. احمد.. سليم.. هديل.. جميلة.. مرام.. عبدالقادر.. صفاء.. محمود.. امل.. عزت.. عيسى.. قادرة.. حمزة.. هائمة.. ثابت.. هزاع.. الممرضة السويدية.. وارثة.. عماد.. يوسف.. حياة.. الصوفي.. الفقيه.. عمر عقلان.. جابر.. بهيجة.. صقر.. ماجد.. مرشد.. حسين.. عزيز.. فائزة.. اسماء.. سيف.. عبدالفتاح.. سميرة.. طه.. غيث.. أمين السيد... الخ تلك الأسماء؛ التي كونت عوالم مدهشة.. منها الشخصيات الأقل من الثانوية.. والثانوية ثم تلك الرئيسية.. مثل عزيز وفائزة والشيخ وهزاع وصقر البصير.
لكن ما يلفت في هذا العمل.. تلك القدرة على الوصف.. حين جسد لنا اليمن بجبالها الشاهقة، وقراها المتناثرة على السفوح والقمم.. تلك التضاريس التي احتضنت تلك الأسماء، ودارت فوقها تلك الأحداث؛ جغرافية تمتد من سواحل عدن إلى ربوع سهولها وقمم جبالها.
ولم يغفل الكاتب تطور المجتمع وقد أوجدت السلطات المدارس والمستوصفات، ووفرت مدرسين وصحيين.. ليلمس القارئ تلك الحيوات المتغيرة للمجتمع.. إلا أن أثر الصراع السياسي واستمراره ظل مهيمناً؛ ما أثر على مستقبل اليمن، لينتج ما نعيشه اليوم من تسلط القوى الإقليمية، وانقسام القوى إلى أجزاء؛ الكل يقبض والكل يدمر تحت شعارات زائفة وكاذبة.
يعد هذا العمل عملاً ملحمياً يؤصل لجيل بل أكثر.. لمجتمع جنوب شبه جزيرة العرب. ولا يمكن أن ننهي مقاربتنا هذه إلى بعد التعبير عن تقديرنا كقراء لذلك الجهد الكبير، والقدرات العميقة التي يمتلكها كاتب؛ يبرز بين كتاب الرواية في اليمن من أول عمل.
عمل يلد بنضج استثنائي. وكم هي الأماني أن يصل إلى كل قراء العربية في أصقاع الأرض.. من خلال دار نشر لها تجربتها في نشر وتوزيع الكتاب.
* روائي يمني